29 أبريل، 2024

“ضياع في يوم شتائي” للقاص : عبدالحميد القائد – البحرين

ارشيف

ضياع في يوم شتائي

قصة قصيرة

وهو في طريقهِ الى عملهِ في صباحِ يومٍ شديد البرودة، مشبعة برطوبة عالية. كان يقود سيارته وهو يرتدي بذلة زرقاء غامقة وربطة عنق حمراء ويلف حول رقبته ايشارب كستنائي اللون، لونهُ المفضّل. كان الضبابُ الكثيف يهمي شيئًا فشيئًا حتى شعر أن الرؤية بدأت تنعدم. أصبح يسوق سيارته مسترشدًا بالخطوط البيضاء المرسومة على جانبي الشارع.

كانت الزحمة على أشدَّها وبالكاد كانت السيارات تتحرك تاركةً مصابيحها مضيئة لتفادي الاصطدام بينما كانت أبواق السيارات تتصاعد بين حينٍ وآخر وكأنهم فقدوا أعصابهم من هذه الورطة المثيرة للأعصاب. استسلم للوضع وبدأ يستمع الى فيروز وصوتها المخملي يهدهد الروح فسرح بفكره وحركة المرور متوقفة تمامًا. سرحَ وسرحَ واستبدَّ به الحنين الى ازمنة غادرته دون رجعة. سرحَ وسرحَ وراحَ فكره بعيدًا جدً جدًا حتى انه من سأم الإنتظار شعر بالنعاس فهو عادةً لا ينام نومًا عميقًا بسبب وحوشه النهارية التي تداهمه وهو في أعماق نومه. بعد قليل بدأ الضباب ينقشع شيئًا فشيئًا ووجد نفسه فجأةً انه الوحيد في الشارع، لا يدري أين اختفت ارتال السيارات بهذا الشكل الفجائي. واكتشف ان الشوارع ليست هي الشوارع التي تعوّد عليها حتى انه شعر بالضياع لأنه فقد حس الاتجاه وكأن الجهات تبعثرت ودخل في منطقة رملية، لا مبانٍ ولا اسفلت ولا اعمدة نور …فضاء شاسع. لا شيء غير الرمال والسماء والصمت.

استمر في سياقته والخوفُ يدبُّ في أوصاله، ملتفتًا يمينًا ويسارًا فربما يرى أحدًا او سيارة أو أي كائن. شعر انه وسط العدم لا اشارة للحياة ولا حركة. قرر ان يقود سيارته بأقصى سرعتها فربما يصل الى مكانٍ معروف، حتى وجد نفسه امام غابةٍ شاسعة لا حدود لها، خضرة كثيفة تغطي المكان، فشعر بالصدمة فليس هناك غابات في بلاده!

نزل من سيارته بعد أن شعر بالعطش ودخل الغابة فربما يجد ماءً فوجد أمامه في مقدمة الغابة جدول ماءٍ رقراق فشرب حتى ارتوى. اغوته الغابة بجمالها الأخاذ ودخل يستطلع على الرغم من ذهوله وشعوره بالذعر الشديد لكنه لم يجد أمامه أي خيارٍ آخر سوى الولوج الى قلب هذه الأحراش فربما يرى أحدًا يخبره عن هذا المكان وأين هو بالضبط. كانت الغابةُ مليئةٌ بأشجار الفواكه المختلفة وكانت منسقة تنسيقًا رائعًا مما اكد له ان هناك اناس يشرفون على تشذيب هذه الاشجار الخلابة. بدأ بالولوج خطوة خطوة وبحذر شديد حتى شعر بأصواتٍ من بعيد ..ضجيج وأصوات اناس كثيرين بدأت اصواتهم تتعالى شيئًا فشيئًا كلما تقدم. أخذ يسير في اتجاه الأصوات حتى شعر انها أصوات اناس لا حصر لهم ربما آلاف ..ربما ملايين البشر. أصوات غريبة ولغات عديدة متنوعة. من بعيد تراءت له قلعة ضخمة جدًا لا يكاد يتخيل بدايتها ولا نهايتها وطوابق عديدة تتجاوز الغيم. سار وقتًا طويلًا بدا له انه ساعات وساعات، حتى شعر انه بلغ قريبًا من القلعة التي كان بابها من خشب تقليدي معتّق بلونٍ بنّي. أخيرًا وصل الى غايته، لمس الباب الضخم فسمع أصواتًا كثيرة تقول له: ابتعد ايها الغريب!. لكنه اصرّ على ان يفتح الباب. امسك بالمزلاج ودفعه بكل قوته وانفتح الباب بكل سهولة ويا للهول رأى اشخاصًا لا عدد لهم يقفون بعيدًا وهم يرتدون أسمالًا ناصعة البياض.

فجأة شاهدهم وهم يركضون جميعهم في اتجاه الباب أو ربما نحوه…عندما دقق النظر في وجوههم التي بدأت تدنو ببطىء: رأى وجه امه وهي تبتسم له بحنان، رأى وجه ابيه وهو يحدّق فيه بحب وشوق، رأى اخوته وأفرادًا من عائلته وجيرانه وأصدقائه الذين غادروا الدنيا منذ سنوات. حاول أن يتوقّف ليحتضن أمه وأبيه اللذين يشعر نحوهما بحنين جارف، انها لحظة نادرة من لحظات الزمن ربما لن تعود، لكنه انتبه فجأةً انهم بدأوا يعدون في اتجاهه بسرعة هائلة. عدد هائل لا يحصى ينظرون اليه ويركضون. أسرع الى الباب واغلقه خلفه وبدأ يعدو ويعدو ساعاتٍ طويلة حتى بلغ سيارته. ركب وودّع المكان وهو في ذعر عظيم كأنه استيقظ من كابوسٍ أو كأنّه سقط من أعلى قمةٍ في الجبل ولم يصب بشيء. هل كانَ يحلم، انه ليس متأكدًا تمامًا!!