11 ديسمبر، 2024

“سيدة الجبل” للقاص : عبدالعزيز الطلحي – السعودية

ارشيف

سيدة الجبل

قصة قصيرة

كانت جدتي لأمي تقبلني دوما على جبيني ، وتمسد على شعري الغزير بعد أن تسرحه و تجمعه في ضفيرة على جذعي الطويل ..
كانت تسميني ( التركية ) و تحكي لي أن جدتي الأعلى ( صفية ناز ) تركية زوّجها أبوها التركي في قرية ( أم الحماط) و سافر مع العساكر الذي طردوا إبان ثورة العربان على الترك .
كانت تقول : إن شعري يشبه شعر جدتي الأشقر ، و تحيط انحناءاته على صدغي وجها أبيض مشربا بحمرة كوجهها ، و أن جذعي الطويل نسبيا الذي تضربني على أسفله لأفسح لها مكانا لصحن قهوتها الذي يحين موعده عند ربط آخر ضفيرتي بخيط أسود يزيد في طوله مسافة وردة لامعة ، كانت تقول : جذعك كبرج القلعة مدماك عريض يزداد متانة في أساسه !
في المرة الأخيرة التي أفسحتُ لقهوتها مكانا لم تضربني لكن سبابتها اليمنى كانت ممدودة على ركبتها ، و لم تمد لأمي كفها لتأخذ فنجانها الأول، فاضت روحها عند أسفل جذعي قبل أن تربط ضفيرتي !
في وسط حزن قرية ( أم الحماط ) الذي تجمع له الأقارب و الأرحام ، قال عمي الذي يقيم بمكة و يعمل سائقا على ( مور ) يملكه وأربعة من أقرانه قال لأبي وهو يمسك بجديلتي :
– نريد ( صفية ) لـ( جمعان) .
– يريد الله خيرا ، قال : أبي .
– مهرها ألف ..
وعد نقودا حمراء دفعها لوالدي !
مرت ثلاث سنوات و وجدتني في ( المور ( بين عمي و جمعان قاصدين مكة الله يعمرها !
مامعي من قرية ( أم الحماط ) إلا ذاكرة التركية ، و كيس من الخيش فيه ما استطاعت أن تصل له يدي من أغصان العرعر و الشث و الصوم و الضرم و الريحان والشيع وورقات من الحماط … و جذعي الذي تفرع منه ( أحمد و وعزة وفضيلة و بديعة و إبراهيم ومحسن و تركي ) الذي يناديه أولاد الحارة بـ ( باشا ) و قافية شرود يتبادل عمي وجمعان ترديدها :
) ياهل الونيت الحمر لوحات نقل الحجاز /
بالله على دار محبوبي تمرونها .
واقلبي اللي انشطب مثل شطب القزاز /
وانتم دوا للجروح اللي تعرفونها (
يابو جدايل حمر و معطرة بالغراز /
اذا نشرها على الجنبين و متونها (
لما حججت في السنة الأولى خرجت من بيتنا في حارة جبل واسط القريبة من منى ، برفقة زوجي حاملا بـ ( عزة و أحمد ) ، اللذين لم يحسبا في عداد الحجاج الذين هالتني كثرتهم في عرفة ، كنتُ أتفرس في وجوه الحجيج من خلف ظهر جمعان الذي أزيد عنه طولا ولم يك قصيرا مَن يده طويلة بالعطاء و روحه بالحنان ، و لسانه بالشعر !
من كثرة الحجيج و اختلاط لغاتهم ، شعرت بغربة لولا أنه يتسرب إلى أذني بعض أصوات كأنها تشبه قريتي النائية ، في ليلة مزدلفة في سفح الجبل والحجاج يفترشون الوادي بين المشعر والجبل ، أصغيت و جمعان لغناء جبلي تحلبه آذاننا من صخرة تعلونا ؛ و يشرع جمعان في البناء : ( يقول أبو أحمد و هو في الحيد مُحرم … (
يوم العيد كنتُ أسقى الحجيج شراب التوت المحلى بالسكر ، بحثا عن النساء التركيات اللاتي يشبهنني ، لكنني فشلت !
كنتُ اصطحب ( عزة و أحمد ( لما بلغا من العمر خمس سنين و أربطهما في أسفل جذعي بحبل جدلته كظفيرتي ، بحيث يتحركان دون أن يتوها بين الحجيج ، ثم أصبحا مربطا لإخوتهم لما كنا نضع أكثر من حافظة لشراب التوت في ساحة المفجر ! يمدني جمعان بالمال راضيا و يأتي لنا بالماء والثلج ، ثم يذهب يعمل على سيارته ( الأنيسة الحمراء)
ما قمتً به قلدنني فيه جاراتي الذين لقبنني ( سيدة الجبل ) ، وأعجبتني جارتي بديعة التي سميت إحدى بناتي على اسمها لأنها كانت تتفنن في طبخ كبسة بخارية أو كابلي ..و تقف غير بعيدة عني تنفقها سبيلا .. كنتُ أصطحب معي ( خبزة أو اثنتين ) مأدومة بالسمن والعسل ، طعاما لنا ، وكان بعض الحجاج لهم فيها نصيب ، ونصيب من الشاي الذي أصر إبراهيم أن يقدمه و القهوة للحجاج ، كان الحجاج السعوديون يقبلون كثيرا على ضيافة إبراهيم الذي يدعو ضيوفه : ( تقهوا ياحاج .. حياك الله ياحاج ) و أحيانا يتمنطق بعمامته و ينادي بطريقة لاعبي المزمار: ( شربتوا من سبيلنا .. سبيل الله ياعطشان ) ، إذا قالها تجمع حوله فتيان مكة فأنهره ، فيقول :
– (جوش قوام .. قوام) ..
منذ خمسين موسما أذيب التوت والسكر للحجاج متخذة من ( ساحة المفجر ) مكانا للقاء دون أن أعثر على ذات جذع مثلي ، وبينما كنتُ و ولدي الأصغر )باشا) ينادي ( سبيل ياحاج .. سبيل يا حاج ) توقف عندنا حاج تركي في مقتبل العمر و زوجته ، كان ولدي ينظر بخفاء للتركية الفاتنة ، و أنا أعد الفروق البسيطة بين باشا و الحاج التركي!