18 مايو، 2024

“أرواح شائهة” للقاص : عمر القنديل – السودان

ارشيف

أرواح شائهة

قصة قصيرة

صوت أول يقول بعد أن مسح قطرات العرق المتدلية من رأسه الذي احتله الفراغ فصار صحراء يلتمع عليها السراب المنعكس بفعل الشمس المائلة ناحية الأفق الغربي:
” واحد وعشرون عاما قضيتها بين ردهاتها ولم تمنحني شيئا يذكر، أغيب وأعود إليها، وفي كل مرة تتحرش بي القردة مصوبة ألسنتها ناحيتي في سخرية وتهكم”.
يواصل:
” لم أنس ذاك اليوم الذي ولجت فيه أسوار الكلية عبر البوابة الرئيسية فوجدتني أطالع وجهي الذي يعلو هامة من الحجر المنحوت كتمثال يحاكي هيأتي والذي صممه أحد الطلاب الجدد كرمز يستقي منه الطلاب العزيمة وقتما ترتخي إراداتهم. أما بالنسبة لي فهو لا يتجاوز كونه ترسيخ للمأساة وتعميق للمعاناة وإيقاظ لذاك المهرج الذي يستوطن أحد أركان الذات ويردد كالبغبغاء: أنت فاشل.. أنت فاشل..
ليتني أنفقت هاتيك السنين في الخدمة العسكرية. أقلها سأصل رتبة لواء ترقص النياشين على كتفي وكنت قد تزوجت وفعلت وفعلت…”.
يجاوبه صوت آخر:
” أما أنا فلقد شاهدت أربع بطولات لكأس العالم المتنقلة بين قارات الكرة الأرضية، أشجع الفرق وأهتف فيفوزون ويرفعون الكؤوس وأنا لا زلت أحتضن السراب”.
صوت ثالث يتكلم:
” أمي تصر أنه كتبني أحدهم بسحر أسود فلا أنا متقدم أجوز الأعوام ولا أنا منفك من هذا العالم البئيس. لقد توقف زماني الكوني في نقطة واحدة والعالم من حولي يدور ويمور بالحركة”.
سحنون ودهنون وكمون؛ ثلاثة أصدقاء جمعتهم الدراسة الجامعية، يتقاسمون الهم والغم والكثير من الأزمات النفسية. يتقابلون في الحدائق ليخرجوا من صدورهم الضائقة وينهلوا ما استطاعوا من هواء. يلفظون هواجسهم ويفرغون أدمغتهم المسكونة بالوهم والخوف من مستقبل لا يعلمون له طريقا سوى جسر واحد يتراءى لهم تماما كما الصراط، وهم المثقلون بالأوزار. يسقطون إثر كل محاولة للعبور صوب الضفة الأخرى حيث الأرض مخضرة والسماء تكتحل بالزرقة والحياة حبلى بالإحتمالات.
يترددون بين رغبتهم في الإنسحاب والتزامهم بالخريطة المرسومة بدقة عالية والتي خلالها يتم بلوغ المرام.
وفي تدحرجهم نحو السماء الزائفة كثيرا ما يصطدمون بصخرة من التساؤلات التي تنشق إلى استفهامات تنتشر شظاياها هنا وهناك:
هل نحن ملزمون بالطرق المخططة من قبل المجتمع؟
هل من وسيلة غير الأوراق المختومة تضمن الوصول ومن ثم تحقيق الأهداف؟
هل الخروج عن النمط السائد يعني الجرأة التمرد أم أنه محض انهزام؟
هل الوعي الجمعي على ذات الإرتفاع الذي يؤهله لاستبانة الخطوط الفاصلة بين الفشل والنجاح؟
سحنون يعالج الرسم وله محاولات جادة لكتابة الرواية.
دهنون كان من أميز مهاجمي فريق المدرسة الثانوية لكرة القدم.
أما كمون فهو شاعر مجيد قبل أن يتحول إلى بائس عنيد بمجرد تعثره في الدراسة التي كسرت مجاديفه وأطفأت روحه المشتعلة وأخمدت رغبته الملتهبة.
” لقد عقدت مقارنة بين حصان امرؤ القيس والمتنبيء؛ اعتمدت نصوص الشاعرين التي تتناول الفروسية والصيد فألفيت جواد امرؤ القيس أسرع!”.
يقول كمون وهو محاط برتل من الأصدقاء الذين لم تسع الأرض ضحكاتهم التي استطالت عبر المكان وتعابير وجوههم المستغربة في عبقرية هذا الكائن الغريب المنتصب أمامهم! والذي يحبس نفسه في كوكب ليس ثمة انتماء بينه وهو.
صار القوم يبحلقون فيه تنز أعينهم بذات العبارة: (كان يمكن أن يكون أفضل من ذلك لو أنه فقط…).
يقول حسام:
” العالم مبني على التجاذب والتنافر”.
” هل من ضوء يومض بلونين مختلفين كإشارة لأحد النقيضين؟” تسأل عبير
يجيب:
” الشيء الذي تحبه أكثر ينجذب إليك..”.
” صرت تعاكس نفسك” يقول محجوب.
يستطرد حسام:
” هذا لا يلغي فعالية القانون بقدر ما يرسخها ويدعمها. انظر إلى سحنون مثلا؛ مولع بالأدب، يطالع آلاف الكتب فتنعكس هذه القراءات إبداعا يبهر أشد العقول ثقافة وفكرا. بيد أنه لا يطيق رائحة حمض الهيدروكلوريك وقتما يمتزج مع هيدروكسيد الصوديوم في معامل الكيمياء. فلماذا لا يتركوه يتفاعل مع الكون بحرية تتيح له إمكانية خلط عناصره الخاصة ليخرج لنا بأروع المركبات الإبداعية؟..”.
” وما الذي يقيده؟” يتساءل محجوب
يرد حسام:
” البوليس الداخلي الذي ما انفك ينمو في وعي كل فرد فينا يتدخل حتى في أحلامنا.. يعطل خيالنا ويقتل فينا تلك الروح الخلاقة. يسيرنا وفقما يشتهي لسياقات معينة لا تقود إلى أي مكان سوى المزيد من النمطية والعادية”.
تتجاوب عبير وأمواج من الحيرة قفزت من وجهها ورشقته بالسؤال: ” وما الحل إذن؟”
كمن انتفخ بالروح حتى زاد حجمه إلى ضعفين يتدفق حسام:
” أن نمزق الخريطة ونغذي بها ألسنة اللهب. بعدها نشيد لنا جسورا تناسب أحلامنا. نحيطها بالأشجار التي نريد وليست بالضرورة أن تعلو الأنهار وما من حاجة لنعبرها مشيا؛ يمكننا التحليق فوقها!”.
وبالفعل نبتت لهم أجنحة صارت تتمدد في الفصاء إلى أن ارتفعوا عن المكان ومن ساعتها وهم يحلقون ويسبحون في زرقة السماء.