5 مايو، 2024

“نقاء الطين الأبيض” للقاص _ خالد اليوسف _ السعودية

سعودى

سعودى

نقــــاء الطيـــن الأبيـــض

يحل الظلام على أزقة دخنة؛ فيأتي معه السكون و الهدوء، والوحشة والخوف من سواد الجدران والبيوت، وصوت حفيف الأشجار والنخيل في الحويطات الواقعة بين البيوت. بعد يوم ضاج بحركة الناس، وصاخب بالسابلة العائدين من الأسواق المحيطة بها من جميع الجهات، بعد أن هرولوا إليها مع شروق الشمس، رجالا ونساءً وصبيان، وكل واحد معه يحمل حصاد تعبه، وكده اليومي؛ هاهو الغروب يعيدهم إلى مأواهم، وتبدأ رحلة الليل المختلف!
لأزقة دخنة الضيقة خصوصية أثناء النهار، حيث تغطيها المجابيب (الدهاليز) المتماسكة بعضها ببعض، فتمنحها ظلالاً يخفف من لهيب الشمس صيفاً، ومن زمهرير الشتاء البارد؛ بخلاف متانة البيوت وتعاضدها. لكن هذه المجابيب تزيد ظلام الليل سواداً، ويرسم بين الجدران الطينية أشباحاً، مع ندرة وجود الاضاءة في الليل. ولم يسبق لي أن خرجت منفرداً خوفاً من هذه الأشباح، فقد كان فوق جدران بيتنا أحد هذه المجابيب، وفوق حائط الوراد مجبب طويل؛ يعتمد عليه المسجد، ورباطه الخاص بطلبة العلم. أما السكة (الزقاق) التي توصلني إلى بيت أبناء عمي؛ فمعظمها مجبابيب متماسكة، ودائماً ما كنت أذهب برفقة أخي الأصغر.

ولنا في بيت ابن عمي ليالي مختلفة جميلة، إذا أردنا البيات عندهم؛ لأننا جميعاً سوف نتحلق حول تلفازهم الصغير. إن كان شتاءً ففي ديوانية بيتهم، التي تجمعنا رجالاً ونساء وأطفالا؛ نحن وهم والجيران. جميعنا في حال متابعة وانبهار من مسلسل السهرة التي يشدنا إليه، أو مع سهرة طربية مع أم كلثوم، التي يسعد بها الكبار، وكذلك سهرات فريد الأطرش وفايزة وشادية وعبدالحليم. لكن المشهد المضحك حين ترى أكثر الحضور في هذه الديوانية قد غليهم النوم، فتختلط الموسيقى والطرب، مع أصوات الشخير؛ خاصة من بعض النساء الكادحات، وهن اللاتي لايعرفن النوم منذ الصباح الباكر، لكن الجلسات الجماعية بين الجيران لاتفوت أبداً!
أما في الصيف فمنذ غروب الشمس والجميع يتهيأ لتجهيز مكان السهرة؛ التي تتم في سطح بيتهم غير الواسع؛ ومع هذا لنا فيه سهرات ممتعات لاتنسى، ومن المعتاد أن يكون العشاء بعد صلاة المغرب بقليل، ثم بعد صلاة العشاء تبدأ الجلسة مع تلفازهم والكل في هدوء ومتابعة وتأمل.

وفي يوم من الأيام؛ سمعت خال والدتي يحكي لها مارآه ليلة البارحة. بعد خروجه من عندنا؛ قرابة. الساعة الرابعة بالتوقيت الغروبي (أي الساعة التاسعة والنصف ليلاً)، قال لها: (تدرين أنا ما امشي في الليل إلا ومعي الكشاف – الاضاءة اليدوية – علشان أشوف طريقي زين، وسكتنا مظلمة، وبعد مادخلت سكتي (الزقاق) شفت من بعيد شي يتحرك على سواد، سميت بالله وتعوذت من الشيطان، وناديت وش أنت أنسي ولا جني؟، ورفعت صوتي بسم الله.. بسم الله، مادريت إلا أشوف رجّال ومعه حرمه ماعليهم شي، وقاموا من مكانهم يركضون، وكل واحد ماسك ملابسه بيده، والسواد اللي مغطيهم عباة الحرمه) وهنا ضحكت والدتي منه، ومن طريقة كلامه ووصفه، وطلبت منه السكوت وسترهم.

يقع بيت خال والدتي في سكة سد (زقاق غير نافذ)، وهي منزوية عن أعين الناس، وسبق له في إحدى الليالي الشتائية الطويلة، أن وجد كذلك امرأة نائمة، ملتحفة ببطانية خفيفة، وهي ترتجف من البرد، وقد قرر بعدها وضع مصباح كهربائي فوق باب بيته، لكنه بعد أيام فوجئ بغياب المصباح، ووجد آثاره على الأرض مكسوراً.
أما عازف العود في حينا. فإن أشجانه لاتتحرك إلا بعد مضي ثلث الليل الأول، وينساب عزفه بين البيوت متسللا بنغمات طربية جميلة. وتتحرك العواطف في بعض الأوقات، لتصاحب العزف في كلمات وأغنيات كثيرة. والجميع متصالح مع عزفه وأغانيه؛ خاصة أنه ابن عائلة معروفة، ويتخذ حجرة واسعة، بجوار بيت أهله؛ موقعاً لسهراته وطربه، وبما أنه غير مزعج لهم؛ فالجميع راضٍ به وبحاله! لكن الذي أنقلب وأزعج الجيران، ذات ليلة مظلمة، أن حضر أحد الشباب للاستمتاع بالجلسة الطربية، وهذه حالة طبيعية. لكن المثير بعد حال النشوة مع الغناء؛ إخراجه لقارورة صغيرة من جيبه، وراح يشرب منها، دون علم الحضور. وبعد مرور وقت بدأت السكرة لديه، وبدأ يتصرف ويتحرك بصورة غير طبيعية. ثم تطاول وأزعج السهارى مع طربهم، وأفسد نشوتهم الطربية. وهنا تحولت السهرة إلى عراك. ووصل الخبر إلى أهله والجيران؛ وصادف ذلك مرور العسس، الذين يجوبون الحارة؛ فأمسكوا بهم جميعاً، ونقلوهم إلى مركز الشرطة. وفسدت بعدها ليالي الطرب الجميل، وتأجلت الجلسات إلى أكثر من مرة!

أما نحن فلم نعد نراه أثناء النهار، وهو يحمل العود في ذهابه وإيابه. ولم نرَ باب الحجرة مجافى؛ بل تم اغلاقه لفترة طويلة. وبدأت الاشاعات تنطلق عن أسباب غيابه، وجميعها تتفق على انتكاسته، وفقد الحي بدايات انطلاقة مطرب سيكون له شأن، وحضور كبير.

تسكن بين بيوتنا امرأة عزباء في بيت صغير، له فناء واسع، تحيط به أربع حجرات، تعمل هذه المرأة في جمع الكراتين (الصناديق الورقية) ويأتيها رزقها مما تعيد الحياة إليه، بعد بيعها في سوق المقيبرة. ذات ليلة انبعث من بيتها رائحة غريبة، أثارت الأسئلة لدى جيرانها، فلم تصبر النساء إلى الغد، فبمجرد رؤيتها في الصباح تقاطرن إليها للسؤال عن رائحة المساء. حاولت الهروب من الاجابة، بعذر تأخرها عن السوق، لكنهن أصررنَ عليها في السؤال، وطلبنَ الاجابة عاجلاً؛ بل هن دخلن إلى بيتها، وكانت المفاجأة وجود (الشيشة) في فناء البيت، وآثار (الجراك) أمام أعينهن! حاولت الاعتذار وأنها لن تعود إليها. وعليهن أن يسترن عليها! وانتهت الواقعة بعد وعدها، أن تملأ بيتها بخوراً، بدلا من رائحة الشيشة المقززة، ولن تعد لمثل هذه الأعمال المثيرة للأسئلة.
وبعد أيام عادت رائحة البخور عالية بين جدران البيوت، فكانت مؤشراً لدى النساء بوجود سهرة في بيتها. وهكذا تتكرر الحال عند نهاية كل أسبوع، إلى أن جاءت ليلة مختلفة. كان ذلك قريباً من الفجر، فكانت سيارة الشرطة والهيئة عند بيتها، ومعهم رجل يتكلم بصوت خافت: (هذا بيتها وأنا متأكد الآن ستجدون الرجّال عندها) وبعد قرع سريع للباب. فتحت المرأة بابها، فداهم رجال الشرطة والهيئة البيت، وبعد بحث في أنحاء البيت؛ كانت المفاجأة، وجود ثلاثة رجال عندها، وليس واحداً! أثنين في حالة سكر، والثالث يردد: (فضحتنا الله يفضحك.. فضحتنا الله يفضحك!)
كان جميع سكان الحي في حالة ذهول. والصدمة على وجوههم مرسومة من امرأة نالت ثقة الجميع، إلا أن شمسها اشرقت بالعار في يوم جديد قاتم السواد.

أما قرنائي، فلكل واحد منهم مع أهله وبيتهم، ليالٍ مختلفة، إلا واحداً منهم فكنت أراه بين وقت وآخر. يتردد عند غروب الشمس على بيت سعيد، وهو من بائعي الحمام في جنوب سوق المقيبرة. وأشعر به ونحن نلعب معاً في متسع السكة (الزقاق)، حين يبدأ الحمام يدور فوق رؤوسنا، وهو يصفق بجناحيه فراداً وجماعات، ونراه يتقلب في السماء مثيراً لعشاقه، جاذباً لهم. عندئذً يقول صديقي: (من يروح معي عند سعيد نتفرج على الحمام؟)، لكن جواب الجميع: (وش تبغى فيه؟ والله لو درى أبوك إن يذبحك!)، لكن كان لايأبه للتحذيرات والتخويف؛ فيذهب إليه بين وقت وآخر. وفي يوم من الأيام كنا جلوساً عند ملعبنا، والوقت بعد صلاة المغرب. وإذا بصديقنا يسير وهو يبكي بحرقة، وخطواته غير طبيعية. فجرينا إليه ملتفين حوله، نريده أن يتكلم! أن يخبرنا عما فيه! أن يطفىء تطفلنا! لكنه لم يتكلم إلى أن وصلنا بيتهم، دخل البيت وبعد دقائق، خرج ومعه أبوه وإخوته، وهم يرددون جميعاً: (سعيد.. سعيد.. الله لايسعده! جاك الموت ياسعيد!) وذهبوا إلى بيته، والجميع يقفون متربصين مترصدين له، وما أن فتح بابه إلا والأيدي تلتقفه وتجذبه. وكل واحد منهم يضربه مع جهة، فكان جسمه ليس عادياً، فحاول التخلص منهم وضربهم؛ لكن رجال الحي جميعا كانوا يقفون في سكته (الزقاق) الضيقة، وكان أحد رجال الحي؛ قد ذهب للشرطة، ليخبرهم بمافعل، ومايحصل الآن عند بيته. وقد وصلت الشرطة وهم على هذه الحال، فتم القبض عليه وغاب عنا إلى الأبد.

أما ماسمعته من والدتي وهي تحكي لجارتها. أن بيتنا القريب من سوق السدرة كان شاهداً لوقائع كثيرة؛ منها سماعها لاستغاثة النساء العفيفات بعد غروب الشمس، وعودة الرجال والنساء إلى بيوتهم، وهن ينادين من ينقذهن من مطاردة الرجال، والكلمات تتردد: (الحقوني يا عيال الحلال من هالرجّال الفاسد!) وهكذا. وكم مرة سمعتْ من يقرع بابنا بقوة، وإذا اقتربتْ من الباب سمعتْ أنينا وتوجعاً؛ فتنادي والدتي – إيهاما – (أحمد يا أحمد تعال شف من اللي عند الباب!) والقصد من ذلك تخويف هذا الرجل المتسلط على المرأة، وهي تطلب الانقاذ من والدتي. تقول، وبعد أن فتحت الباب؛ وجدتها وإذا هي ممزقة الملابس، بعد أن اعتدى عليها! ويتكرر هذا مع عدد من النساء. والمؤلم أن يحصل هذا – أحياناً – في عز النهار، وقد حصل في ذات ضحى، مع امرأة أخرى!