25 أبريل، 2024

التأويل بين المبنى والمعنى في قصيدة سكة عاشق مجنون : للشاعر السوري أحمد اسماعيل …. والشاعر العراقى : علاء حمد

نبقى مع جزيئات النصّ ورقصاتها المتتالية في المنظور النصّي، هذا إذا أردنا أن نكون مع فلسفة التأويل في النصّ الشعري الحديث، حيث إن الجزء من الجزئي، والجزء من الكلي، أي ينطلق النصّ الجزئي من الكل، والكل من النصّ، كنصّ جزئي أولا وكنص تام ضمن النصّ الكلي، ودربة التأويل تقودنا إلى فهم الفهم، وربما نميل إلى الرمزية أو إلى فعل المتخيل، وإصابتهما الفعالة في لملمة النصّ الجزئي للمعاني المؤولة. أين نحن من النصّ والنصّ الجزئي؛ فإذا كان واقعة فإنه خبري له المعنى وله المعنى المؤول، وإذا كان بنائي، فمن هنا نستطيع أن ننطلق نحو بعض الأبنية المساعدة للنصّ الشعري ومنها : حركة الفعل الانتقالي، حركة المتخيل، الانسجام اللغوي، الدال والمدلول، الرمزية، الأشياء ومدى استعاراتها.. كلها تساعد على البناء النصي وكذلك تقودنا إلى تأويل النصّ الشعري، لذلك فالذي أمامنا نراه في العين المحدقة، والذي أمامنا يصبح مكتوبا ومن ثم مقروءا، أي العملية بكائن عكسي أيضا؛ ولكن الذي يهمنا هنا هو التفكرّ النصي ومدى توظيف المستلزمات والممكنات كي نكون مع المقاربة النفسية للوجود النصي. (( إنّ العمل الأدبي ” المفتوح ” في نظر إيكو، هو العمل الذي ينطوي على إمكانات تأويلية هائلة، إنه كلّ عمل يكوّن حقلا من الإمكانات التأويلية… ويقترح سلسلة من ” القراءات ” المتغيرة باستمرار… ويكون مبنيا باعتباره كوكبة من العناصر التي تقبل مختلف العلاقات المتبادلة – أمبيرتو إيكو – ص 56 من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة ))..
هكذا يبحر الشاعر السوري أحمد اسماعيل، في خصوصية النصّ المختلف، ولو أن المنظور المتشعب يقود المتلقي مابين الواقع والواقع، وبين المبنى والواقع، وبين المبنى والشرود النفسي في حالات الخلق النصّي، ولكن عندما نتوقف عند خاصية، فهذا يعني أن النصّ أصبح من النصوص المنظورة بخصوصية النصّ المكتوب، والذي يشدني أكثر اختلاف الجملة عن بعضها، كأنه يستدرج المفردات في حالة تركيبها، والواضح أمامنا سعة المتخيل وسيطرته على مساحة الخيال المرسوم :
كالقطار
رأسي يحمل
الزهر… و الطير… و الحجر… و الفحم.. و البشر
الكل يحسدني على هؤلاء
و الأرض… و الماء… و السماء
تشتهي حلم انحرافي
عن السكة السوداء
المدمنة على عشق ألواني…
الأشواق التي أحرضها على الهروب
..
لم يفارق الشاعر حالات التشبيه الظاهرة وحالات التشبيه الضمنية، وفي الحالتين يقودنا التشبيه إلى مقام الجملة من جهة، وإلى كينونتها من جهة أخرى، فيفرش التأويل خصوصيته في كلا الحالتين، كمبنى اعتمد المعاني، والتي تحولت إلى موضوع..
إن فلسفة الخيال واعتمادها على الصورة الشعرية والصورة المجردة اللذين لهما الخاصية في توفير الظروف الآنية للبناء التأويلي، وكذلك حالات الاستدلال التي لانستطيع أن نبتعد عنها..
كالقطار = رأسي يحمل + الزهر… و الطير… و الحجر… و الفحم.. و البشر= حالة استدلالية أراد منها بناء رؤيته واتجاهها نحو القطار والذي دار في المخيلة، وبما أن المخيلة ملكة، فأنها تصيب ولا تخطئ الهدف، فالمنظور هنا انتقل من التشبيه إلى المتعلقات التي كانت عائمة في الذات العاملة للشاعر..
الكل يحسدني على هؤلاء + و الأرض… و الماء… و السماء + تشتهي حلم انحرافي + عن السكة السوداء + المدمنة على عشق ألواني…
نلاحظ من خلال امتداد الجمل الشعرية، تكوينات إشارية، فقد أشار الشاعر إلى الحسد والأرض والماء والسماء والحلم والسكة، لكي يقف بموقف الدال في الجملة الأخيرة، وهي نتيجة من نتائج الإشارات بين المُشير والمُشار إليه.. فالواقعة التي أراد أن يربطها في النسيج اللغوي أدت وظيفتها كمنجز نصّي، وذلك من خلال التعقل الصوري، أي أنّ هناك حالة تفكرية اندمجت مع حالة التصورات الخيالية، فليس غريبا عندما يحيل الشاعر النصّ إلى ذاته.
الأشواق التي أحرضها على الهروب = مكبلة…
عادة ابتعد عن مفردة الشوق وجمعها الأشواق، وذلك لاستهلاكها من قبل الجميع تقريبا، ولكن عندما تكون كحالة دالة، يختلف منظورها، فقد اعتمد الشاعر على استدلال الجملة، لكي يكوّن للمتلقي حالة التكبيل، والتي تضغط على الحرية ولا تدعو على ممارسة واستغلال الفضاء الواسع.
الشاعر أحمد اسماعيل، خصخص مفردات التصور؛ الذاتي والمثالي؛ كما عند ( هوسرل ).. (( كلّ واحد منا له موضعه الذي يرى منه الأشياء الموجودة والذي بمقتضاه تحصل لكلّ واحد منّا ظهورات الأشياء المختلفة. وكذلك فإنّ مجال الإدراكات الفعلية لكلّ واحد منّا ومجال ذكرياته الفعلية إلخ.. مختلفة بصرف النظر حتى عن كون ماهو من الأمور الواعية المشتركة بين الذوات يكون الوعي به على أنحاء مختلفة وبنظرات ذات أنحاء مختلفة وبدرجات من الوضوح مختلفة إلخ.. – أفكار ممهدة لعلم الظاهريات – إدموند هوسرل – ص 83 – ترجمة : أبو يعرب المرزوقي ))…
عجلاتها مقيدة بعيون السكة
هي
تهتم بكل تفاصيلي المملة
السرعة التي لا تلزمها المكابح…
وقوفي في المحطات المنسية…
تصاعد الدخان من رأسي
مضيي للأمام…. وكل شيء جميل يهرب للخلف…

ليس هناك نسيان للوجود، بل مرافقة الأكثر حضورا، الشخص الغائب، حيث تصاعد المنظور الحاضر على حساب التجلي والتحولات التي طلبتها الذات العاملة، ومن هذه التحولات، بين الأنا الشاعرة، والشخص الغائب الذي حضر كمرادف للشخص الحاضر ( الباث )، وبما أن الجملة الشعرية اعتمدت المختلف، فقد كانت لغة اللامحدود إحدى مباني المنظور التأويلي، وهكذا نقيس النصّ الذي رسمه الشاعر أحمد اسماعيل، والذي أثبت العنونة، وبقي سابحا في الفضاء الشعري..
عجلاتها مقيدة بعيون السكة + هي + تهتم بكل تفاصيلي المملة + السرعة التي لا تلزمها المكابح… + وقوفي في المحطات المنسية… + تصاعد الدخان من رأسي + مضيي للأمام…. وكل شيء جميل يهرب للخلف…
كيف جنى الشاعر أحمد قاسم اللقطة المؤولة، وكأننا أمام ذات مؤولة ( كما أكد عليها بول ريكور)، إلا أن الذات التي ترى الأشياء أمامها بوصفها اللاقطة الأولى في جني الممكنات من حولها، فمنفذها الذاتي وإحالة الكتابة نحو الكتابة، إذن من خلال النصين، المقروء والمكتوب، نحصل على الإحالة الذاتية أيضا.
فالأشياء الجميلة في منظور الشاعر تهرب إلى الخلف، بينما الواقف هنا أمامي يكون، وإلا يحصل النقيض، وقد اعتمد على الرياح التي تدفع الدخان إلى الخلف، هكذا اختصر المشهد الشعري الباث وهو المحدق في المحطات المنسية. وبين النسيان والوعي اللحظوي، نلاحظ أن الشاعر أراد أن يصنع شيفرة خاصة لقصيدته التي نعمل عليها.
اصغ و لو لمرة…. أيها الحجر
الزهر و الطير و ما تبقى
يغردون في القصيدة
و القصيدة عالم من ورق
لا غصن فيه لتتكئ عليه الأغاني
مادام الحوار العميق… سطحيا
يكتبه بالأحمر مجهولون
يسميهم المجاز………… بشر
أيتها السكة الحبيبة
متى أتوقف عن العمل؟
أريد أن أصدأ و تتفكك مفاصلي…
..
تنمو الصورة الشعرية مع النصّ ذاته، ومن خلال هذا النمو يبدأ اختلاف النصّ أيضا كلغة خارج المباشرة، ولا نستغرب حوارا ذاتيا، عندما يظهر لمواجهة الحالات الخارجية، لذلك فالمواجهة الحقيقية التي يعتمدها الشاعر، محتويات النص كجامع للتفكر الذهني، وكمؤثر من خلال اللغة التي تستعين بالتركيبات الأفقية من خلال العلاقات المتواجدة بين المفردات الشعرية.
اصغ و لو لمرة…. أيها الحجر + الزهر و الطير و ما تبقى + يغردون في القصيدة + والقصيدة عالم من ورق + لا غصن فيه لتتكئ عليه الأغاني + مادام الحوار العميق… سطحيا + يكتبه بالأحمر + مجهولون + يسميهم المجاز………… بشر + أيتها السكة الحبيبة + متى أتوقف عن العمل؟ + أريد أن أصدأ و تتفكك مفاصلي…
من خلال لعبة العبارات والمفهوم السحري للجملة الشعرية، نلاحظ أن فعل التواصل قد سيطر على مجمل المقطع الشعري الذي نقلناه من قصيدة : سكة عاشق مجنون.. ومن هنا كانت العلاقات بين العنونة كعتبة أولى وبين المشهدية النصية، عنوانا آخر للنصّ الذي اعتمده الشاعر وهو يُظهر لنا المعاني المؤولة التي تماشت مع النصّ بمفاهيم اعتمدت الانزياح. الحجر، الزهر، الطير، القصيدة، الورق والغصن، كلها مفردات دالة أدت إلى مفهومية الجملة الشعرية وهو يُظهر لنا الشخص الغائب.
لعل التراب يبتلعني… فأتحلل من أحمالي
أو يعاد تلويني بالزهر والطير
كأي خردة في خريفها
تزيّن المتاحف و الحكايات
و من ينظر إليها
لا يعتبرها مجرد صور

طالما أننا مع التأويل، فالحلة الرمزية لاتكشف المعاني المباشرة، بل تخفيها، لذلك فالوجه الأمثل والذي يظهر أمام المتلقي، قراءة الرموز المعتمدة في النصّ الشعري، والرمزية حالة من التأويل، يظهرها النصّ من خلال العلاقات بين الجمل الشعرية، وتظهر المعاني من خلال تعددية القراءات في النصّ الشعري الواحد، وهذا مانلاحظه في قصيدة ( سكة عاشق مجنون )، لو أبحرنا مع العنونة، فسوف نلاحظ أن الجملة، هي جملة اسمية، أي لاحركة للفعل بين كلمات العنونة، بل حركة المعنى المؤول المخفي الذي لم يظهر بشكل مباشر: + لعل التراب يبتلعني… فأتحلل من أحمالي + أو يعاد تلويني بالزهر والطير + كأي خردة في خريفها + تزيّن المتاحف و الحكايات + ومن ينظر إليها + لا يعتبرها مجرد صور
يقودنا الشاعر مع الـ ” أنا ” الفاعلة لكي يوظف درسه الفعلي كموضوع يحمل معانيه، لذلك نلاحظ أن فعل الإثارة والـ ” أنا ” الفاعلة يتحركان ضمن مجالهما، فالأول يسمى في الاصطلاح ( تمثّلا )، والثاني يسمى كواضع لتحريك الجمل الشعرية، لذلك فهناك مركزية الفعل؛ وهو مفهوم التمثل عن الآخر، وربما وظف الـ ” أنا ” لتمثّل الآخر الغائب، لكنه نسب الضمير لنفسه من خلال حركته. في جميع الأحوال إن الشاعر أحمد قاسم، استطاع أن يزرع مفهوم عالم المعاني الذي اقتحم النصّ، موضوعا بالإيثار، حيث اندمجت الكلمات معبّرة، وكانت اللغة عالما واحدا من العلامات.

******************************************

سكة عاشق مجنون

أحمد اسماعيل– سورية

كالقطار
رأسي يحمل
الزهر… و الطير… و الحجر… و الفحم.. و البشر
الكل يحسدني على هؤلاء
و الأرض… و الماء… و السماء
تشتهي حلم انحرافي
عن السكة السوداء
المدمنة على عشق ألواني…
الأشواق التي أحرضها على الهروب
مكبلة…
عجلاتها مقيدة بعيون السكة
هي
تهتم بكل تفاصيلي المملة
السرعة التي لا تلزمها المكابح…
وقوفي في المحطات المنسية…
تصاعد الدخان من رأسي
مضيي للأمام…. وكل شيء جميل يهرب للخلف…
و الثقة بأن أحمالي تعيق بتفان
حوارات القلب…
الحجارة التي تحملها المقاعد
لا تستهوي رؤى الفحم المشتعل
تقول في غيبوبتها
لو لم تضح بنفسها
لتحولت لألماس
و الفحم طلع على لسانه الشعر
و هو يروي للحجر
كيف صنع منه رمز
للانتفاضة
و الحرية
و الصمود
لا يزال إلى الآن
أبو الهول جالساً على قلب الأهرامات
و الثور المجنح على بوابة نينوى يلقي الرعب في النفوس
لا تكن كالسامري
هات يدك أقبلها
اصغ و لو لمرة…. أيها الحجر
الزهر و الطير و ما تبقى
يغردون في القصيدة
و القصيدة عالم من ورق
لا غصن فيه لتتكئ عليه الأغاني
مادام الحوار العميق… سطحيا
يكتبه بالأحمر مجهولون
يسميهم المجاز………… بشر
أيتها السكة الحبيبة
متى أتوقف عن العمل؟
أريد أن أصدأ و تتفكك مفاصلي…
لعل التراب يبتلعني… فأتحلل من أحمالي
أو يعاد تلويني بالزهر و الطير
كأي خردة في خريفها
تزيّن المتاحف و الحكايات
و من ينظر إليها
لا يعتبرها مجرد صور
…………….