29 مارس، 2024

” مكالمة ” للقاصة : وداد معروف _ مصر

وداد

وداد

مكالمة
رن هاتفه وهو غارق في الكتابة تتناثر الخطابات على مكتبه والكتب أيضا، منها ما هو مفتوح، ومنها ما هو مقلوب على بطنه. في زاوية من مكتبه أطلت زهرته المفضلة بلونها الوردي الجميل، أجاب الهاتف، تورد وجهه وهو يقول: أنا؟! .. متأكد أنه أنا؟ صمت قليلا وأكمل: لم أكن أتوقع أبدا، الحمد لله.. الحمد لله .. نعم نعم، لن أنسى أنك أول من بشرتني، أغلق الهاتف، امتدت يده إلى الرسائل التي أمامه، مسح عليها بحنو ثم أسند ظهره للمقعد وجال بعينيه في حجرة مكتبه… لا.. بل صومعته التي مارس فيها طقوس الكتابة وتلا فيها بإحساس مواويل المعاناة والقهر أكثر من عشرين عاما.
امتدت يده للهاتف, لكنها رجعت مرة أخرى. تقلصت البسمة من على شفتيه وطفرت دمعة من عينيه ودار هذا السؤال في عقله: مع من سأقتسم هذه السعادة؟ رحلت رفيقة العمر ولم تتزين حياتي بأبناء, ستنهمر عليّ التهاني والتبريكات من الأقارب والأصدقاء والزملاء. فالبشريات المفرطة كالحزن تماما؛ تضيق بها نفوسنا إن لم نقتسمها مع حبيب قريب، تصبح كخبر عادي نفقد دهشته طالما لم نقرأها في عيون من نحب، امتدت يده مرة أخرى لهاتفه.
هللت أخته لصوته، دائما ما تسأل عنه، لكنه غارق في صومعته بين تلال الرسائل، هكذا قالت له، همّ أن يخبرها بفرحته الكبرى التي ضج لها صدره وتوشك أن تقفز منه بدأ وقال: نسرين لقد حصلت….هدرت بحكاياتها عن زوجها وغيابه و انفلات عيار الأولاد، كلما همّ بالكلام قالت له: أوحشتني جدا يا حسن، دوامة الحياة ومشاكل الأولاد تستحوذ عليّ تماما، قل لي ماذا أفعل مع هؤلاء الأولاد، تعبت من مشاكلهم التي تتكاثر مع مرور الأيام. سمعها وأسدى إليها ما استطاع من النصح و أنهى دون أن يخبرها بشيء، قرر أن يتناول الغداء في هذا اليوم السعيد مع شقيقه حازم وأولاده، ولأنه سيفاجئهم دون أن يرتبوا للأمر فقد أوصى بإعداده في أفخر المطاعم. والآن عليّ أن أبلغه، ابتهج وأقسم عليه ألا يحضر شيئا؛ أخبره أن الأمر انتهي, فقد طلبت كل الأصناف التي تحبها أنت و الأولاد, وستأتيهم علي العنوان بعد ساعتين من الآن، في طريقه إلى حازم انهالت عليه المكالمات فقد تسرب خبر حصوله على الجائزة إلى العاملين في بلاط صاحبة الجلالة، لكن كانت هذه المكالمة وحدها التي أدهشته، أتذكر تلك القصة التي نشرتَها من عشر سنوات عن تلك المرأة التي ولدت وكبرت لكن رحمها ظلَّ طفلا, وعن معاناتها مع زوجها الأول, ومعايرة أهله لها بالعقم, ثم طلاقها وزواجها من انسان كريم نبيل, أحبها وأجري لها أكثر من ثمان عشرة عملية حقن مجهري، وكلها فشلت، هل تذكر ردك عليّ؟ لعلك نسيت في زحمة الرسائل ومضي السنوات؛ لكني ما نسيت أبدا تلك الكلمات التي سطرت في قلبي وعقلي و ليس في بريدك الأسبوعي فقط, كيف أنسى تلك المواساة التي مسحت الهم عن صدري وأبدلته رضا وسكينة، ظللت أقرأها وأعيدها، وبدأت العمل بوصاياك التي ختمت بها ردك عليّ فأكملت دراستي حتى حصلت على الدكتوراه في الصحافة، وها قد أصبحت زميلة لك يا سيدي الكريم، لكن أين أنا منك ؟! أيها الناسك في معبد شيدتَ جدرانه من حكمة أفاء الله بها عليك ومن هدى ورجاحة عقل أوقفتها على مريديك من جرحى الحياة كما تصفهم دائما.
قال لها: تذكرت مشكلتكِ لا بل مأساتك التي عرضتها واقشعرّ بدني من كلماتك سيدتي، من أنت باللهِ أخبريني؟
أنا أمنية التابعي رئيس تحرير مجلة “الحياة أنثى”
بصوت مدهوش قال: أنت يا أمنية صاحبة هذه الرسالة التي آلمتني وأنا أقرأها، و آلمتنى أيضا وأنا أخط الرد عليها, تعجبت حينها كثيرا من مثابرة زوجك وإصراره على تحقيق أملك وامله، فجاءت كلماتي من وحي موال صبركما المدهش
سيدي حسن .. هكذا نادته
نعم يا أمنية، سيحتفل ويحتفي بك زملاؤك في صاحبة الجلالة وحريُّ بهم أن يحتفلوا لكن هناك حفلا آخر، أعرف أنه هو الذي سيسعدك ويشعرك أنك لم تغادر نهرك الذي أتقنت السباحة فيه ، سأدعو كل جرحى الحياة الذين راسلوك على مدار عشرين عاما هي عمر بابك الأسبوعي أن يحضر من يستطيع منهم ومن بقي منهم علي قيد الحياة؛ للاحتفال بالجائزة التي شرفت بك, جائزة أفضل كاتب في الإنسانيات.
وقد بلغ به التأثر ما بلغ قال لها: أمنية وكأنك اطلعت على قلبي وما به من وحشة فصنعتِ لي هذه الفرحة؛ التي ستريني وجوه هؤلاء الذين عشت معهم آلاف الحيوات في حياتي.