11 ديسمبر، 2024

” وطن أخضر ” للقاص : جاسم الحمود _ سوريا

جاسم

جاسم

وطن أخضر
………..
هناك أشخاص يكرهون اللون الأسود ، و آخرون يكرهون اللون الأحمر ، لكنّ قليلاً من الناس يكرهون اللون الأخضر ، و أنا واحدٌ منهم ، و ربما أكون الوحيد في هذا العالم .
البداية كانت مع أول يوم لي في المدرسة، يومها علّقوا على كتفي شريطاً أخضرَ ، وقالوا : هذا صفك لا تغيّره .
أما صديق طفولتي أحمد ،فعلّقوا له شريطاً أصفر ، و صار في صفٍ مجاور لصفي بعد الاستراحة أردت أن أَظل مع أحمد ، دخلت معه الصف ، استوقفني أحد عناصر الانضباط ، و قال : هذا ليس صفك .
وأشار إلى الشريط الأخضر على كتفي ،نظرت إلى الشريط ،نترته بعنف ، و رميته أرضاً ؛ ففوجئت بلسعةٍ طويلة حارقة تلفّني من فخذي إلى كتفي ، و صوت المعلم ينهرني: لماذا قطعت الشريط أيها الشقي .
في المدرسة حدثونا عن الشرطي الذي يساعد الأطفال و الشيوخ في عبور الشارع .
ذات يوم كنت ألعب أمام البيت عندما توقفت سيارة ، و نزل منها رجالٌ بوجوهٍ خضراء ، فرحت لرؤيتهم عن قرب ، هؤلاء الذين يساعدون الأطفال و الشيوخ .
اقترب أحدهم مني ، و سألني : هل تعرف بيت حسن الراوي .
قلت بفرح : نعم إنه أبي .
– هل هو في البيت .
– نعم سأناديه .
ذهبت ، و عدت بعد لحظاتٍ لاهثاً ، و قلت لهم : أبي ليس في البيت .
اقترب الرجل الأخضر ، و سألني بغضبٍ : ألم تقل منذ لحظاتٍ أنه في البيت .
أجبته ببراءة : ظننتُ أنه في البيت .
انحنى الرجل الأخضر ، و صفعني ، فوقعت أرضاً، و نبهني : ثاني مرة لا تظن .
اقتحم الرجال الخضر بيتنا ، لحظتها تبخّرت صورة الشرطي الذي يساعد الآخرين ، و ولدت بذرة الحقد على اللون الأخضر ، و عندما علمت فيما بعد أن الرجال الخضر، أخذوا والدي من بيت عمي ، و سجنوه ، تحولت بذرة الحقد إلى شجرة .
أثناء الدراسة الإعدادية و الثانوية ُقيِدْتُ ست سنواتٍ في بدلةٍ خضراء ، و في الجامعة تجنبت اللون الأخضر بضع سنوات .
في يومي الأول من خدمة العلم فوجئت بالمد الأخضر المترامي ، وقفت في الساحة الكبيرة مبهوراً … المجندون … الضباط … يرتدون اللون الأخضر في أرضٍ قاحلة تفتقر إلى اللون الأخضر .
جمعونا في ساحة المعسكر ، أعطونا بدلاتٍ خضراء ، تفوح منها رائحة التخزين …
ذات مرة تأخرت عن الاجتماع مع بعض رفاقي ، فحوّلنا الضابط إلى السجن … كان السجّان ضخماً بليداً بشاربين غليظين ، لونهما أخضر ، وقفنا أمامه ، صاح بنا : ( صفوا خمسة خمسة ).
انفلتت مني ضحكة لأننا كنا أربعة فقط .
صرخ السجان : تضحك … انزلْ منبطحاً .
قلت له : أنا معي ( ماجستير ) .
-ماجستير .. سرطان .. كبد ما تفرق معي .. منبطحاً يعني منبطحاً .
أذكر أني في لحظاتٍ يتيمة انتابتني مشاعر مغايرة تجاه اللون الأخضر ، أذكر أنّ اللون الأخضر أوحى لي بالقوة و الكرامة عندما رأيت عرضاَ لوحدات الجيش العراقي قبل الحرب ، و عندما قاوم العراقيون القوات الأمريكية في أول أيام الحرب سرّني منظر الرجال الخضر وراء المدافع و الرشاشات ، قررتُ لحظتها أني سأحب اللون الأخضر .
لكن الخبر جاء صاعقاً ، سقطت بغداد ! .
كيف و لماذا ؟
أين الجيش العراقي ؟ أين المليون الأخضر ؟ كيف تبخّر فجأة ؟ كيف انهزم ؟ .
أعرف أن الرجل الأخضر الواحد ، يخيف عشرات الرجال ؛ رجالٌ سمرٌ بشوارب و كرامة … فكيف ينهزم المليون الأخضر أمام رجال بلا شوارب .. قررت لحظتها أن أقطع الأمل في أي بادرة قد تؤدي إلى وفاقٍ مع اللون الأخضر، ولأن النفس أمارة بالسوء قررت أن أبحث عن طبيبٍ يزرع في عيني عمى الألوان .
……………………………………………………………
#جاسم_الحمود – كتبت : ربيع 2003 إبان سقوط بغداد .