23 مارس، 2025

من رواية رقصة التوت ” للأديب : فوزي نجاجرة من فلسطين

فوزى النجاجرة

فطلَبت منه إحضار الصبيةِ إلى داخل غرفةِ نومِهِا على عجلٍ.
حمل أَنِيْس حَنَان بين ذراعيه القويَّتين، صعودًا عَلى درج (أم زكريا) العالي، أدخلها إلى الغرفة، طالبتهُ بوضع الفتاة برفقٍ على السَّرير، ثم الخروج.
أغلقت البابَ خلفَه، رفعت قميصَ حَنَان، بحثت عن الجرحِ، ليتبينَ لها أن إصابتها في الخاصرةِ اليُسرى، أحضرت القطنَ المعقّمَ بالكحول، وضعته على الجرحِ، ثُم أغلقته بلاصقٍ طبّيٍّ محكمٍ؛ لوقفِ نزيف الدَّم المستمرّ، استدعت أَنِيْسا، أجلسته على كرسيٍّ بجانبِ السرير، ليبقى معَ الفتاة، ريثمَا تذهبُ لتبحثَ عن طبيبٍ تحضرُه، واشترطت عليهِ أَلا يفتحَ البابَ لأيّ مخلوقٍ كان، أَسدلت الستائرَ، أَشعلت شمعتينِ، وأطفأتِ النورَ، ثمّ انطلقت.
سَعَت المرأةُ الخمسينيةُ في طرقاتِ البلدةِ الفرعيةِ، آخذةً بعين الاعتبار الابتعادَ عن نقاطِ وجودِ الجنودِ الصهاينة، على مفترقاتِ الشوارعِ الرئيسَة.
كثيرًا ما كانت تضطرُّ، أن تزحفَ على الأربعةِ، كلما اقتربت من عسكرٍ، أو سمعت صوتَ راديو هاتفهم واتصالاتهم، أو صوتَ عرباتِهم العسكرية المزعج، فقد سلكت دروبًا ضيقةً وصعبةً في العَتمةِ التي داهمت زمنَ المدينةِ وحيِّزَها، بعد عشرين دقيقة، عادت ومعَها طبيبان، شابٌ وزوجته الطبيبةُ الأجنبية من أصول مَجريَّةٍ، وفورًا أجرى الطبيبانِ فحصًا شاملًا للفتاة؛ قياسَ الحرارةِ، النَّفَس، النَّبض، الضَّغط، ومكان الجرحِ، ثم قاما بحقنِ الشابة بأدويةٍ في العضلِ والأوردة، بدأت تفتحُ عينَيها، وحرَّكت يدَيها ورِجليها، ومن ثَمَّ استفاقت كاملًا بعد عشْرِ دقائق، تهذي بكلماتٍ غير مفهومةٍ، وتئنُّ أنينًا موجعًا، ثم دخلت في نوبةِ صياحٍ وبكاءٍ، تنادي أمّهَا (سميرة) تارةً، وشقيقتها (صوفيا) تارةً، والعذراء تارةً أُخرى.
حينها بدأ الدكتور يحمدُ اللهَ كثيرًا هو وزوجتُه، واستدعى أَنِيْسا وأم زكريا، وطمأنهُما على حياة الفتاة، وعن حاجتِها إلى وحدات دمٍ كي تعيشَ، بسبب فقدها كميةً كبيرةً من الدّم، أبدى أَنِيْس استعدادَه لإعطاء ما يلزم من الدم لحَنَان، فسأله الطبيب:
– هل تعرف فصيلة دمك ؟
– نعم، إنه من فصيلة O+)).
– ممتاز، فصيلة دمك هذه، تُعطَى للناسِ جميعهم، إذا سمحت، اسْتَلْقِ على السرير بجانب حَنَان.
وقام الدكتور بسحب وحدةٍ كاملةٍ من دمه، ونقْلِهَا إلى الفتاة، ثم قال:
– إن هذه الوحدة لا تكفي، وحتى تتجاوز البنت الخطرَ؛ عليكم تدبُّر أربع وحداتٍ أُخريات.
اتصل الطبيبُ هاتفيًّا بِبعض مستشفياتِ المدينة ، قاموا بإرسال الوحدات اللازمةِ من الدم السّاعة العاشرة ليلًا، مع بعض الشبابِ سرًّا، حيثُ كانت البلدةُ جميعها تخضعُ لنظامِ منع تجولٍ عسكريٍّ كاملٍ.
عالج الطبيبان الفتاةَ، وأسعفاها، نقلا لها وحدات الدَّم اللازمةِ، الأمر الذي ساعدَ على استقرار حالتِها، وتَجاوز مرحلَة الخطر على حياتها
في صباح اليومِ التَّالي، رُفِع منعُ التجوُّل المفروض على البلدةِ، الأمر الذي مكّن والدَي حَنَان المقدسية؛ أمَّها سميرة وأباها سامي، من القدوم من مدينة القدس، إلى بيتِ أمِّ زكريا، واصطحابِ ابنتهم إلى المُستشفى الفرنسيّ، الواقع في الشَّيخ جراح في مدينة القدس. وهناك أُجريت لها عمليَّةٌ ناجحةٌ دامت ساعةً، تم خلالها إخراج رصاصةٍ من بطنها.
فرحت حَنَان عندما شاهدت زميلَها أَنِيْسًا يقفُ أمام سريرها في الْمَشْفَى، وفي يدِه باقة من وردِ القرنفل، مشكَّلةٌ من ألوانٍ مختلفةٍ، بعد ثلاثة أيامٍ من إصابتها، ومعه ثلاثَة زملاء آخرين، منهم رئيسُ مجلس طلبة الجامعة. شكرت حَنَان زملاءَها على زيارتهم لها في الْمَشْفَى، وقالت لأَنِيْس في حضرة والدَيها:
– هذا زميلي وصديقي أَنِيْس يا بابا، ساعدني وأنقذ حياتي مع أمِّ زكريا، فقد أحضرا لي الطبيبَ وزوجتَه الطَّبيبة المجريَّة، وكذلك منَحَني هذا الإِنسانُ الشهمُ وحدةً من دمهِ، عزيزي أَنِيْس، أمام الربِّ، وأمام والدي سامي وأمي سميرة، أنا مدينةٌ لك بحياتي وروحي، وأطلب من الربِّ أن يساعدني على سدادِ دينك آجلًا أو عاجلًا.
قام والداها بتقديم الشُّكر والعرفان للشاب أَنِيْس، وأثنَوا عليهِ وعلى زملائه الرَّائعين.