24 أبريل، 2024

من رواية رقصة التوت ” للأديب : فوزي نجاجر _ فلسطين

فوزى النجاجرة

هذا أَنِيْسٌ ابن القرية، هذه حَنَان بنتُ المدينة المقدسة، ساقتهما الأقدار وجمعتهما، ليلتقيا على مقاعد الدِّرَاسَة الْجَامِعِيّة كزميلين، ثُمّ يصبحان صديقينِ حقيقيّينِ، القواسم المشتركة بينهما، تجسَّدت في التعاون الكبير للتَّحضير لِلدِّرَاسَة، وتبادل المعلوماتِ، تنسيق برامجهما الدِّرَاسِيّة اليوميَّة والفصلية، ومساعدة بعضهما بعضًا في المحاضرات والأبحاث والامتحانات، قالت حَنَان لأَنِيْس في صباح يومٍ جميلٍ وهادئٍ، وهما يجلسان إِلى طاولة الكافتيريا:
– إذا سمحت يا أَنِيْس، إذا ما عندك مانع، احْكِ لي عنكَ وعن عائلتك، فأنا أحبُّ التعرف إِليكَ أكثر يا صديقي.
– لمَ لا، بكل سرورٍ، أنا أَنِيْس أحمد مصطفى كنعان، في التاسعة عشرة من عمري، فلاح من قرية تقع في الرِّيف الشرقي للمدينة ، والدي يُدعى أحمد مصطفى كنعان، استُشهدَ -رحمة الله عليهِ- قبل سنتين، عن عمرٍ يناهز الخامسة والأربعين، بينما كان يقفُ في صباح يوم من الأيامِ على رصيف الشارع الرئيسِ في مدينتنا، منتظرًا الحافلةَ التي تقلُّه إلى مكان عملهِ كعادتِه، وإذ بمستوطنٍ صهيوني حاقدٍ يدعسه بسيارته، ويفرُّ من مكان الحادث على الفور، دون أن يتعَّرف إِليه أحدٌ. والدتي تدعى بلقيس، وتبلغ من العمر الثالثة والأربعين، ولي أخٌ اسمه بسيل، يكبرني بثلاثة أعوام، وهو متزوجٌ من ابنة خالي إِسماعيل، واسمها صابرين، ولي ثلاثُ أخواتٍ؛ سلمى، سارة، وحليمة، وجميعهنَّ متزوجات.
– يعني أنت (قريد العش) مثل ما بقولوا الناس، يعني أصغر واحد في إخوتك وأخواتك.
– نعم صحيح، ولا تنسَي، فقَد وصلَ إليَّ الدور في الزواج.
– هههههههه. أنا اسمي حَنَان سامي، أمي اسمُها سميرة، نحن أسرةٌ مسيحيةٌ من طائفة اللاتين الكاثوليك من مدينة القُدس، وأهلي محافظون جدًّا، والدي يعمل في قنصلية أوروبية مترجمًا، ووالدتي معلمة لغةٍ فرنسيَّة، ولي أختٌ اسمها صوفيا تصغرني بسنة، وهي الآن في صف التوجيهي.
– بسم الله ما شاء الله، جميعكم متعلِّمون ومثقفون، وأسرتُكم صغيرةٌ نسبيًّا.
قبلَ مغيبِ شمسِ يوم الثلاثينَ من شهرِ آذار بساعةٍ، والذي يصادفُ يوم الأرضِ منْ كلِّ سنةٍ في بلادِنا فلسطِين، وفي منتصفِ الفَصلِ الثاني منَ السنةِ الدِّرَاسِيّةِ الثانية، أجهدَ أَنِيْس في بحثِه المضنيّ عن طريقٍ آمنٍ يوصلُهُ إلى مسكنِه، وبعدَ جُهْدٍ جهيدٍ استطاعَ بلوغَ المسربِ المؤدِّي إلى سكنِه بصعوبةٍ، في جوٍّ من الخوفِ والمطاردةِ والإثارةِ، مصحوبًا بصوتِ إطلاق الرَّصاصِ الحيِّ والمطاطيِّ، وقنابلِ الصوتِ، وقنابلِ الغازِ المسيلةِ للدموعِ، الذي أطلقه جيشُ الاحتلالِ الصّهْيُونِيّ الغاصب، وذلك إثر المُظاهراتِ العنيفةِ التي شهدها حرمُ الجامعةِ، والتي انتشرت في كل أحياءِ وشوارعِ البلدةِ منذُ الصباحِ الباكرِ، حتى مغيبِ شمسِ ذلكَ النهارِ.
– بعد قطعِهِ مسافةَ أربعةِ أمتارٍ من ذلك المسربِ المؤدِّي إلى سكنِه، والَّذي بلغَ طوله نحو مائة مترٍ؛ يمرُّ وسطَ أشجار زيتونٍ كبيرةٍ وكثيفةٍ، وبينما هو يمشي على عجلٍ، لاحظ وجودَ خطِّ دم متقطع ومتواصل، يرتَسِمُ على طول الممرِ الإسمنتي.
– ذُهِلَ أيَّما انذهالٍ، وتساءل في نفسه، ممَّن يا ترى نُزِفَ هذا الدمُ؟ ومَن يكونُ صاحبُه؟ حثَّ الخُطى أكثر فأكثر، وهو في غاية التوتر، ليجدَ صبيةً في غايةِ الجمالِ ملقاةً على بطنها، وَسْطَ بركةٍ صَغيرةٍ من الدِّماءِ تحتها، أمسكَ وجهَهَا وأداره نحوه، وإذا هي زميلته الطالِبة حَنَان المقدسية، شبُه مغشيٍّ عليها، وَقد نزفت كثيرًا من الدمِ إثر إصابتِها بعِيارٍ ناريٍّ، حاول استنطاقَها وسؤالَها، ولكن دونَ جدوى، فقد كانت شبهَ فاقدةٍ الوعيَ، إلا أنَّها ما زالَت تتنفّسُ، وصدرها يعلو ويهبط.
– احتار أَنِيْس بما يمكنه فعله لإنقاذ حياة زميلتِه وإسعافهَا، ولكنَّ حيرتَه لم تطل، فتذكَّرَ جارتَه الأرملة (أم زكريا)، صاحبةَ البيتِ الذي يسكن فيه، فطار كالطير صاعدًا درج جارته في الطابقِ الثاني، طرق بابَها طرقاتٍ خفيفةً، خشيةَ أن يسمعه الجنود الصهاينةُ المنتشرون في كلِّ مكانٍ من أحياء وشوارع البلدة.
– حين فتحَت البابَ، أخبرَها عن حالةِ زميلتِه حَنَان، وعن سوء جرحِها، ونزفِ دمها الذي لم يتوقفْ، ورجاها أن تساعدَه في إسعافِها، لطمت خدَّيها بيَديها كلتيهما، وهي تولولُ بتأثُّرٍ واندهاشٍ، أبدت رغبتَها فورًا بالمساعدةِ دون إبطاء، فطلَبت منه إحضار الصبيةِ إلى داخل غرفةِ نومِهِا على عجلٍ.