19 أبريل، 2024

” رائحة الجنة ” للقاصة : شاهيناز الفقي _ مصر

رائحة الجنة

لم تكن الحرارة الشديدة ولا وهج الشمس الذي اخترق رأسي هما السبب فقط ولكن الارهاق أيضًا، بعد أن مشيت حوالي ثلاثة كيلومترات والنصف على قدمي وهي المسافة بين المدرسة ودارنا، تستغرق هذه المسافة بالخطوة السريعة حوالي نصف ساعة أما إن كنت مثلي نحيف البدن رهيف القلب ومعتل الصحة فستقطعها في ثلاث ساعات على أقرب تقدير.
تتهمني جدتي بالعند وتقول وهي تبتسم بحنان:
-ورثت العند عن أبيك، أنتما الاثنان رأسيكما كما الحجر الصوان.
ونتيجة هذا العند لم أستمع للنصائح بعدم الخروج في هذا الجو شديد الحرارة والرطوبة، لو كانت الحرارة وحدها كنت احتملتها ولكن تكالبت الرطوبة مع وعورة الطريق بالإضافة أننا في شهر رمضان وكانت أول تجربة صيام لي بعد أن بلغت العاشرة.
استولت على ذهني أفكار عجيبة وحلقت برأسي خيالات غريبة، رأيت سنابل القمح تتحول لفتيات يرقصن بميوعة، والشمس تبتسم بخبث وهي تلقي بسهام مشتعلة نحو الأرض، والغريب في الأمر أن الأرض كانت تستقبل السهام وهي تضحك بجنون.
طاف بعقلي سؤال لم أجد له إجابة، هل أنا أسير في الطريق بالفعل أم أنني مسجى في فراشي أعاني من أعراض الحمى، استمررت في السير تحت تأثير الرغبة في الوصول، أصابتني الحيرة، يا ترى في أي اتجاه أسير، وما زاد من حيرتي هو ذلك الرجل الذي يرتدي عباءة موشاه، استوقفني ودون أن اسأله قال:
– نقطة الوصول هنا.. وأشار بيده لقلبه.
بلغ مني الظمأ مبلغه نظرت لزجاجة المياه الباردة فوق الطاولة تراودني عن نفسها، أعرضت عنها ووليت وجهي شطر أمي الراحلة وقد جلست بجانبي تحتضن رأسي بين ذراعيها، أقبل جدي لغرفتي وتعجبت كيف ينعم بالهدوء وكل هذه الحمائم البيضاء تتبعه وترفرف من حوله، وضع يده على رأسي قائلا
-الولد مريض.. حرارته مرتفعة
أخذني من يدي وسار بي في طريق طويل ظننت أنه لن ينتهي، تعاقب علينا أكثر من ليل ونهار، حين شكوت له من ألم قدمي منحني حذاء جديدا مرنا يتناسب ومشقة الرحلة، سألته متى نصل فلم يرد، لكن كلما تعثرتُ كانت يده تسندني بقوة. استوقفني وقال لي أركض برجلك، نظرت له في حيرة فلم يكن ثمة ماء، كانت الأرض حولنا جرداء والهواء يحترق حتى أن الحمائم اختبأت داخل العباءة الموشاه، ظل جدي يكرر الأمر حتى يئست من أن يتركه.
بدأت أركض في كل اتجاه، أسير في خطوط متوازية ثم في دوائر وحلقات متصلة، جذبني الدوران حول نفسي لبقعة ضوء في السماء، هناك حدث ما لم يكن في الحسبان، تفجرت الأرض من تحت قدمي ينابيع وانهمرت السماء بماء طهور. هممت أن أطفىء ظمئي لولا تذكرت أننا في شهر صيام.
اقترب مني الرجل صاحب العباءة مد يده بحفنة ماء سكبها في فمي، كان للماء طعم العسل ورائحة الجنة، وكأني شربت ماء النهر كله، ارتويت حد الامتلاء.
حين فتحت عيني سألت أبي الذي كانت تبدو على وجهه ملامح القلق الشديد، هل انطلق مدفع الإفطار، ابتسم وهو يقول:
-أول يوم في الصيام دائمًا هو الأصعب.. حمد الله على سلامتك.
مرت الأعوام، رحل أبي، واعتدت الصيام، لم أخبر أحدًا عما رأيته، لم أحك عن الرحلة والرجل صاحب العباءة، لم أبح بسر رائحة الجنة وطعم العسل الذي يملأ فمي ويلتصق بحلقي كلما هل علينا شهر الصيام.