18 أبريل، 2024

“عهر شريف” للقاص : محمد دحروج

عهر شريف

.كـان عــادل من أجمل خـــلـــق الله نـفسًا وأفصحهم منطقًا وأعــذبهم لسانـــًا ، كانت حياته تجمع بين الجـدّ الخــلاّق والعبث الأنيق الذي يجاوز الأنــاقــــة ليعانــــق القُبحَ أحيانًا ، كان عــقــلاً ذكيًّا يحسن استخدام هـذا الذكاء في إدارة مشروعاتـــه الخاصّة، أمّـا عـــن جِــدِّه الخلاّق فتمثّل في عمله الذي يـــُقيم أمور دنياه ، كما أنــــه كان حريصًا على مـؤازرة بعض المساكين ومَن هُم في حاجةٍ إليه ، كان يعلم أنّ العمل هـو سبيله إلَى المال الحلال ، وكان يــُوقـنُ أنّ الحــرام خاتمـــةٌ كريهةٌ لكلّ إنسانٍ ؛ غير أنّ عادل كان يُعاني من داءٍ ظنّ أنـــه لا دواء لــه ، ربما كانت حياته المغلقة الحزينة هي ســرّ إيمانه بأنــه يحتاج إلى معجـزةٍ ليهرب من دوّامــة هذه المحنة ، كان عادل شخصًا انطوائيًّا وإن بـــَـــدَا أمام الناس اجتماعيًّـــــا قادرًا على إدارة ذاته وإدارة عـقـول الغـير ، كان حُـزنـهُ الدفينُ يجُـــرُّه نحو المرأة ، لم يكُن شخصًّا إباحيًّا أو شهوانيًّا ؛ وإنما كان يطلبُ الحنان الذي عـاش محـرومًا منــــه حتى قـــارب السّادسـة والثلاثـين من عمره ، وما أفظع تلك الدائرة التي أوقعه بها بحثُـــهُ عن ذلك الحنان المزعوم !
كانت هند قـــد أصبحت منذ شهـور طويلة رهينة الفراش ، لقد أجمع الأطباء أنه لا أمل في شفائها ، مضى عام ونصف عام وما زالت هـند بموضعها فوق سريرها بالمشفى ، كان عادل يحُـبُّها فوق حدود معنى الحب ، لقد انتظر شفاءها طيلة ثلاث سنوات كاملة ، غير أنّ العشـرين شهــرًا الأخيرة أكّـــدت له أنّ لحظة الفراق الأبديّ ستدُقُّ بابـه في صباحٍ مُعتمٍ أو مساءٍ لا يعرف السّلام ، كان اليأس قد أحاط بأيامه ، لقد آمن أنـه لن يستعيد عقله في وقتٍ قريبٍ ، فطالمـا أنـه ينتظـر موتها فإنّ الحَيـْـــرَة ستظلّ محاصرةً إيـّاه ، وهو يعلم أنها ستموت ، ويعلم أنـه بموتها لن يجـد راحـة نـفسه أبـدًا .
اعتاد أن يُـصلّي صباح كلّ يــومٍ من أجـلها ، ثم يخرج إلى عـمله ، كانتطبيعـة عمله تـفـرض عليه كـثيـرًا من المواقـف التي تجعله يـــُواجــه النساء ويعاملهنّ وربما امتـدّت هذه المعاملات ليلاً عبـر الهـتّـاف ، كانت ظـروف هند الصحيـّــــة قــــد أجبـرتهما على اللقاء المباشر يومين كلّ أسبوع لا تزيد الزيارة عـن مـدّة ساعـةٍ ، ومن هنا ورغم الألم الذي ظـلّ يحمله عادل في قلبه بـدأ الفراغ يمـلأ أجواءه النفسيّـة ، حاول في البدايـة أن يشغل وقـتـــه في الليل بالقـراءة أو زيارة بعض الأصحاب ، غير أنــــه بمرور الأيام بدأت حِدَّة الشعور بالوحدة والقلق تحيط بـــــه من كلّ جانبٍ ، وبدأ حصار النساء له يزداد ، إنــــه يقابلهنّ أثناء العمل ، وربما راح في مسامرةٍ ليليةٍ مع واحدةٍ من صديقاتــه ، كان الحـزن هو أصل حكاياتـــه ، والحزنُ يــُظهر طبيعة الإنسان الرقيقــة ، وكان عادل ساحــر اللفــظ جميــل النــبرة ، فمالت قلوب بعض الصديقات إليه ، اعتادت هُـــدى أن تحادث عادل كلّ ليلةٍ بعد منتصف الليل ، كانت امرأة في الثانية والأربعين من عمرها قـد مات زوجها منذ عامين دون إنجابٍ فهي تحيا حياةً قاسيةً لا سيّما وأنها اعتادت على رجــلٍ كان يعشق جسدها ويقتل رغبته من خــلالها كل ليلةٍ ثم غادرها فجـــأةً بالموت لتواجــه معاناةً صعبةً ، كانت هُدى سيّدة حنــونـةً بطبعها ، مالت إلى عادل ، وبدأ هو الآخر يشعر بما تريد أن يكون ، هنا تحـرّكت رغبته كرجلٍ ، ولأنها امرأة لا تعترف إلا بلغة الجسد على الحقيقة فقد أرادت عن عَــمْـــدٍ أن تحرمـــه لُغــــة شبقيّـــــة الخيال ، لم يكن عادل قد جرّب شيئًا من ذلك من قبل ، لكنه شعر أنــه بحاجةٍ إلى هذا الأمر ، فهو لا يستطيع أن يتزوّج ما دامت هنـد تتنــفّس وتعانق الحياة ولو بأدنى معنىً من معاني العناق ، كما أنــه ما عاد يحتمل إذ باتت طبيعته الجسديــــة
تفرض عليه صراعًا مزعجًا ، وهنا كان القرار الأخير …
لن يتخلّى عادل أبدًا عن هند ، سيحاول أن يعالِج صراعه بطريقته ، لن تدخل فتاة بيته ما دامت هند فوق الأرض لا تحتها ، غير أنــه سيُوافق على الدور الخـــفيّ الذي عرضته هُــدى من أجل أن يجــــد صبرًا طويلاً ليظلّ مع هند وإن بقيت ألف عام على فراش المرض !
هكذا أقنعه عقلُه ، وهكذا دلَّته طقوس هذه الأيام العصيبة .
وبدأ عهــدٌ من الضياع ، ضياع من أجل الحفاظ على ثبات
الذات تجاه موقف إنسانيّ من مواقف الحياة … من أجل الحـفاظ على قـضية هند كانت تجربته نحو الغواية !
لأول مرّةٍ في حياته قــرّر أن يعايش امرأةً على وجه اللذة ، وكان اللقاء
الأول بين عادل وهُــدى .
لأول مرّةٍ تقف امرأةٌ بقميص نومٍ أمام عادل ، كانت هُدى مثالاً للمرأة
المثيرة ، عيناها وما تدلاّن عليه من رغبةٍ تستفزُّ الشيخ الطاعن بالسنّ فكيف
بشابٍّ ملء إهابه رجولةً !
كان القميص مرتفعًا إلَى درجةٍ مُرهقةٍ لكنه لَم يكن قصيرًا إلَى الحدّ الذي يقتل الإثارة عند الذكر إذ القاعدة تقول إنّ الفضول يظلّ قائمًا ما دام الحجابُ لَم يُرفع بعدُ .
اقترب عادل منها ، في بداية المشهد كانت تتملّكه رجفةٌ إذ أنه لَم يعتد مثل هذه المواقف ، كانت أنفاسها ، همسها ، نظراتها ، حركة أصابعها حول عنقه ، كلّ ذلك حرّك انفعالاته شيئًا فشيئًا نحو الذروة .
مرّ الوقت وعادل يمارس طقوس أول تجربةٍ للغواية في حياته .
في الليلة التي أعقبت ليلة المغامرة كان عادل جالسًا في بيته فوق فراشه يتأمل كيف تغيّرت به الأحوال من بعد أن آيس من شفاء هند ، كانت دموعه تسّاقط حَزَنًا على فتاة أيامه التي باتت بين أنياب الموت بين لحظةٍ وأخرى ، فجأةً انتبه من بعد أن كفكف دمعه وأزال ما سال على خدّيه ، فإذا به يمسك بالهتّاف ليتصل بهُدى !
بعد ثلاثة أيامٍ من هذا المشهد كان عادل بالمشفى صبيحة يوم ماطر ، كانت هند ترقد وقد بدت عليها كلّ دلائل الوَهَن ، كانت جميلة رائعة الملامح غير أنّ ما يمُيّزها أنها كانت بريئة الحضور في يقظتها وفي نومها ، أخذ عادل ينظر إليها والدموع تنهمر في صمتٍ فكأنه الشبحُ قد سحرته آلهة الأحزان من بعد أن كان إنسانًا يروح ويجىء بين جنبات الحياة ، ويا له من مشهدٍ حين تنظر إلَى عادل فكأنه تمثالٌ لشخصٍ أنيقٍ والدمع يلتمع إذ يسيل على وجهه !
فجأةً فتحت هند عينيها ، نظرتْ إليه والضعف يحول بينها وبين مجرّد كلمةٍ تنطق بها ، امتدّت يدها النحيلة وقد تهيأتْ راحتُها لأصابعه ، انحنى عادل ليُقبّل راحة هند ، وضع وجهه فوق كفّها فاختلطت دموعه بعرق الحُمَّى التي تنهشُ بأوصال حبيبته !
في المساء كان عادل يطرق على باب هدى ، بعد سويعة كان الفراش يشهد عُرسًا دراميًّا بوثيقةٍ تعلن واقعة زنا !
مرّ عامٌ كاملٌ
كانت علاقته بهند ما تزال مستمرّة ، إنه العام السّادس في قصتهما ، أما علاقته
بهدى فكانت قد انقطعت منذ خمسة أشهر ، وسرّ ذلك أنها علمت بحجم عاطفته نحو
هند فكانت تدعوه إلَى تركها وكانت تدعو عليها بالموت كثيرًا ، وكان هذا مما دفعه بقوّةٍ لهجرها ، غير أنه كان قد اشتبك في علاقةٍ جديدةٍ مع امرأةٍ مطلّقةٍ تدعى سوزان تبلغ من العمر تسعة وثلاثين عامًا ، غير أنّ الغريب في حياة عادل أنه كان قـد اعتاد على الجمع بين أكثر من امرأةٍ في وقتٍ واحدٍ ، وكان يُسمّى ذلك ( صداقات ) ، وأما سوزان فكانت في قاموسه علاقة ، والعلاقة هي تلك التي تمتدّ لوقتٍ طويلٍ وتكون الأنثى بها صاحبة مكانة نسبية ، وأما المرأة التي يضاجعها مرّةً أو مرتين فتلك صاحبة علاقة هامشيّة ، وهكذا أخذت حياته تمضي بطريقٍ ما كان له أن يتصوّره في ذات يومٍ !
كيف كانت أيامه مع هند قبل أن يداهمها المرض ، لقد كانت أيامًا تشبه حياة راهبين في صومعةٍ ، ما أغرب الدنيا حين تلقي بنا من شاطىء الأمان والجمال لنسقط بلُجّة بحر الخيبات !
في شهر آذار سنة 2020 كان وباء فيروس الكورونا قد اجتاح مدن مصر وتسبّب في مقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف إنسان ، وكان كلّ يومٍ يمرُّ يبعث في نفسه خوفًا رهيبًا ، وهنا كانت وقفته أمام ضميره !
كان يجلس كلّ ليلةٍ وقد أغلق هاتفه ليفكّر في سرّ الرُّعب الذي يطارده مع كلّ لحظةٍ ، كان يطمئن على هند كلّ يومٍ غير أنه كان يؤمن أنّ الوباء سيطاله لا محالة ، إذن فهل سرُّ رُعبه لأنه سيموت ؟، هل مجرّد الموت يخُيفُه ؟، لا ؛ إنه بطبيعته لا يهاب الموت ، إذن … ما الذي يفزعه كلّ هذا الفزع ؟ ، إنه يعلم أنه أصبح رجلاً تلوّثه رائحة الخطيئة ، لَم يعُد هو عادل الذي كان يقضي الليل في ظلّ أطياف الخيال الحالِم النقيّ ، لَم يعُد عادل هو ذلك الإنسان … وفي سحَر ليلةٍ قرّر أن يتوضأ ويقف بين يدي ربّه ، لقد شعر أنه يريد أن يجد شيئًا من السكينة قبل أن يلقى الله ، وكان يدعوه أن يحرس حبيبته التي ترقد هناك بالمشفى … تلك هي قضيّة عادل ، إنه يخاف عقاب الله ، وكذلك فهو لا يذكر في محنته إلا فتاته النقيّة التي ما أحبّ سواها .

في شهر مايو كانت مصر قد خلت تمامًا من وباء الكورونا ، وبعد أيامٍ قليلةٍ كان عادل قد نسي أمر الصلاة والدعاء ، ذهب في الصباح لزيارة هند ، إنها هناك بالمشفى راقدة فوق الفراش ، وضع بجانبها الورود التي اعتاد أن يأتي بها إليها ، ثم قبّل جبينها ، وانصرف .
في المساء كان عادل يضاجع عبير ، إنها المرأة الجديدة ، أول امرأةٍ في حكاية الغواية التي أعقبت انتهاء وباء الكورونا من مصر .
في الصباح كان قد قام من فراشها وارتدى ملابسه ، وبينما يعبُرُ الطريق وهو مُتعبٌ جاءت سيارة تنطلق بسرعة رهيبة ، فما هي إلا لحظة حتى كان عادل جثَّة لا حراك بها وقد انتشرت الدماء فوق الإسفلت .
لقد انتهى عُمرُه على هذه الصُّورة البشعة !
بعد ساعة من وقوع الحادث كانت هند على باب المشفى في طريقها إلَى بيتها بصُحبة أمها ، لقد أخبرها الأطباء أنها قد شُفِيَت تمامًا وما عليها إلا أن تتابع الطبيب من وقتٍ لآخر للاطمئنان ،،، كانت هند تنظر إلَى الصباح الجميل وهي تبتسم بينما يحتضن كفُّها البرىء تلك الورود التي أهداها إليها عادل عند آخر زيارةٍ له ، يوم أن وضع القُبلة فوق جبينها ثم ودّعها وانصرف مسافرًا نحو المجهول !