9 سبتمبر، 2024

“هات شاي يا بندق” للقاصة : ليلى حسين _ مصر

ليلى

ليلى

هات شاي يا بندق ..
قصة قصيرة

في عبق الزمن الجميل لم يكن جلوس السيدات و البنات فى المقاهى مالوفا .. كان و مازال المقهى مفرا من متاعب الحياة و ملاذا يختلي فيه الفرد بقلمه و جريدته وكوب شاى ” صعيدى ” بحت فى الخمسينة ..
القهوة كانت ملجأ و متنفسا بعيدا عن صخب الصغار و مهربا من شكوى و تذمر زوجة مطحونة في الأعمال المنزلية .. المقهى إستراحة قصيرة لعامل فقير و التقاط أنفاس ليسد رمقه بلقيمات متواضعة ..القهوة ملتقى الأصحاب و تبادل النقاش و الفكر فى السياسة و الأدب و الفن و مشاهدة البرامج التليفزيونية الرائجة .
و المقهى ” تليسكوب ” لرصد حركة و تطور و ظروف المجتمع اجتماعيا و سيكلوجيا و اقتصاديا ..
فى اواخر السبعينيات دفعتنى الظروف لعمل مؤقت بالصعيد فى مجال البحث الميدانى و ما أدراك ما الصعيد .. كان له تقاليده الصارمة و اسواره العالية المشددة .. كان العمل مرهقا جدا يتطلب منى دق الأبواب .. إعراض و صدود .. والطامة الكبرى البيوت الطيبة مغلقة و العقول أيضا كم كانوا يستنكرون غربتى و يتعامل بعضهم بقسوة و غلظة ..
بمفردى فى بلدان الصعيد و نجوعها و كفورها .. رغم ان كل القلوب تمضي على فطرتها الطيبة ..
أحتاج كوب شاى و أحتاج طعام .. لم يكن هناك حلولا بديلة غير شراء خبز و جبن و اللجوء لأى مقعد فى اى مقهى بلدى متواضع جدا جدا .. لا تباين واضح بين لون الزجاج و لون كوب الشاى الداكن جدا ” .. أصبو إلى استراحة قصيرة من عناء السير و التخبط الفكرى و الإجتماعى و كم التناقضات التى تضمها حقيبة اوراقى ..
و كأنى أفعل عملا شانئا بجلوسى فى ركن المقهى ..
انا البنت الوحيدة .. تتوجه الأنظار إلىَّ .. اتظاهر بالتجاهل و كل كيانى يرتعد .. لم يتفضل احد بالتدخل فى شانى و امرى و كنت اتحاشى الحديث و النظر بيننا أرقب خلسة مهارة رواد المقهي في صنع سجائر بدون فلتر و تصاعد رائحة الحشيش التي كانت تزكم أنفاسي و تدير رأسي .. “الحشيش” له رائحة عطرية قوية نفاذة لكن لم اشهد أحدهم يفقد عقله .. رواد المكان اعتادوا تواجدى على مدى اسبوعين حظيت بإلقاء السلام و انطباعاتهم المتباينة و حين يرونني مقبلة ينادي أحدهم : ” هات أحسن كرسي للمصرية ”
و يتم تنظيف الطاولة بخرقة لون الطين .. اتقبل الأمر بابتسامة و تظهر شهامة اولاد البلد و عروض المساعدة ..
أواصل عملي في صمت يشوبه الخوف و الحذر ، هكذا تفرض عليك الغربة .. لن أسلم من اخطبوط الغربة في بلدي ..
بعد عودتي إلى القاهرة تصنعت الشجاعة و لم لا .. الأمر مختلف تماما ..
فى القاهرة الفاطمية ادمنت الجلوس فى المقاهى مع زملائى للتشاور فى قضايا و أمور القلم و الفن التشكيلي و التصوير .. اصبح لمقاهى الحسين فى قلبى حب و مساحة هوى .. كنت اطلب ذلك كثيرا من الرجل الذى رافقنى رحلة الحياة و كان يتحمل شطحاتى و جنونى خصوصا ايام الموالد .. المديح و الدفوف و التنورة و سيدنا الحسين
أدمنت مشاهدة و متابعة ملامح البشر و أهل مصر .. الملامح الطيبة الكادحة و ابتسامات الرضا ..
ادمنت الوقوف طويلا امام محلات الفضة و الأحجار الكريمة و مشغولات النحاس و الصدف .. أحاور أعناق المآذن بشغف و ينبثق بيننا حوار يغازل السماء ..
من زاويتى فى مقهى الحسين التقط خلسة صور أبيض و أسود للملامح الصامدة المجهدة .. تتخلل مسامى رائحة البخور المختلط باللُبان المر و تتأرجح مشاعرى على سلم المساحات المحصورة بين سواد اللقطة و أبيضها و أنا على يقين تام بان القلوب ناصعة البراءة و البياض ..
هى القاهرة الآن بعد عمر لكن اختلفت الملامح و أختل المذاق و العطر معظم شوارعها تحولت إلى مقاهى ، بل زحف
حتى نهر الطريق .. السيدات تنافس الرجال فى شرب الشيشة و المخدرات .. الكل ينفث دخان وجعه و مشاعره و فكره .. ألام البطالة المفزعة و كثيرا من التلوث فى سماء المحروسة .. ..
و انا فى ركنى التليد أمتشق قلمى الأسود لتدفق عباراتى علها تحاصر العالم النقى الأنيق المخزون بذاكرتي ..
” انا فى نفس الزمان و نفس المكان .. انا هنا ..
أحبك .. أحبك جدا مثلما أعشق صلاح الدين .. المؤيد .. المعتضد .. خان الخليلى .. الخيامية .. الأزهر و الحسين .. الخارطة لم تتغير داخلى .. أنتظرك . “