19 أبريل، 2024

“فلاش ميموري” للقاص : محمد الراشدى _ السعودية

سعودى

سعودى

“فلاش ميموري”

قصة قصيرة

خفقت كل محاولاته في محو الأغنية العالقة في قاع ذاكرتي.. غلب على ظنه أنني تالف.. نزعني بضجر من طرف جهاز الحاسوب، ثم طوح بي إلى سلة المهملات.. أسلمني إلى النسيان وكنت قبل ذلك الذاكرة!

الحقيقة أني لم أكن الذاكرة فقط؛ إنما كنت الذاكرة والنسيان معا، ولهذا كان يحتفي بكل ذاكرة محمولة، ويقتني المزيد من أشكالها، ويستزيد في مساحاتها، لا عن قصور في ذاكرته؛ إنما لأن الذاكرة هزيمته الكبرى.. هزيمته حين تفشل في التذكر، وهزيمته حين لا يفلح في النسيان!

كان يحرز بي نصرا يعادل به هزائم ذاكرته كلما أضاف في فضاء ذاكرتي شيئا أو محا شيئا.. يضيف إليّ حتى تزدحم روحي ويضيق رحب ذاكرتي، ويمحو حتى أكون الخواء.. وبين أنامله تسيل دوما لذة ظنونه أنه سيد التذكر والنسيان.. الكتابة والمحو بإرادة كاملة!
و كأي زنزانة لا تحسن التعاطف مع أوجاع نزلائها ولا تكترث لتفاصيلهم ولا تهتم لمواعيد إقامتهم ومغادرتهم؛ كنت لا أهتم لما ينقل إلى جوفي أو ما يفارقني، فكل ما يصلح أن يكون في ذاكرة محمولة يمكن أن يسكنني بغير إرادة مني ولا خيار لي فيما يغادرني!

شلل يشطرني نصفين؛ نصف قدره من الحياة التلقي، ونصف تحركه مشيئة النسيان!

مرة حطت في بهو انتظاري أغنية لم تكن كالأغنيات.. لحنها روّض وحشة الذاكرة وكلماتها كانت كل معجمي.. وكلما أيقظ إيقاعها سبات روحي تتجدد للذاكرة معان أخرى سوى التذكر، وأزمنة سوى الأمس، والأمس وحده زمن الذاكرة، وأقصى ما تعقله من الوقت!
وللوهلة الأولى نبت في جدب الذاكرة خوف، وبات للفقد قلق يساور بلادة الطمأنينة كلما همّ صاحب الذاكرة بإضافة أو حذف!
كنت أعلم يقينا أنه لا إرادة لذاكرة، لكنني ولمرة واحدة قررت أن أجرّب الإرادة، فتشبثت بالأغنية، وحاربت المحو حين أراد أن يطالها، وبقدر كل ما جربت من النسيان، قبضت على الأغنية في الذاكرة وأمعنت في الرفض..

جرب صاحب الذاكرة كل وسيلة لمحو تلك الأغنية وأوصدتُ حولها نوافذ الروح.. تقنيًا صرت مجرد ذاكرة تالفة رصيدها أغنية تحشرج لحنها في حنجرة الفناء.. وفي قاع سلة مهملات استقرت قطعة ” فلاش ميموري” معطوبة، أخفقت في التذكر، وامتنعتْ عن النسيان!.