18 أبريل، 2024

“الضحك ممنوع” للقاص : موسى الثنيان – السعودية

ارشيف

الضحك ممنوع

قصة قصيرة

يلفه البياض، معطف الطبيب، ملاءات وطلاء السرير الذي يستخدمه لفحص مرضاه والجدران التي علقت عليه صور لمعدات طبية تضج بالحيوية، كان الطبيب منهمكا يستكشف ما تقوله صورة الأشعة وبرفقتها تقرير عن حالة المريض، وبعد انتظار تنحنح الطبيب السوري الجنسية، وحرك نظارته التي تملأ حيزا كبيرا من وجه المتغضن فيما المريض الجالس على الكرسي قد رفت أذناه.
الطبيب: كما ظننت، صورة الأشعة والتقرير يشيران إلى وجود قرحة في معدتك.
تنهد المريض الجالس على الكرسي واعتدل في جلسته المسترخية، وراح يحملق في وجه الطبيب بملامح بدت متحفزة.
قال الطبيب: سأصف لك دواء عليك أن تلتزم به، وستكون صحتك بخير بإذن الله تعالى.
وأكمل: عليك أن تبتعد عن البهارات والأطعمة الحارة، الحليب، المشروبات التي تحتوي على الكافيين، الأطعمة المقلية والوجبات السريعة.
ظل المريض فاغرا فاه وهو يستمع لقائمة الممنوعات فيما صلعته اللامعة قد تناثر فوقها قطرات العرق، وهو يتحسس بطنه الكبيرة، عليه أن يمتنع عن قهوة الصباح وشاي العصر، عليه أن يبتعد عن أكل الوجبات السريعة، والفلفل الذي لطالما أحبه؛ فحضوره على مائدة الطعام من الأشياء الضرورية الصارمة، فإذا صادف يوما نفاذه أحس ببرد الأكل في فمه رغم أن يفور دخانا.
استدرك الطبيب: وابتعد عن المنكدات والهموم.
من السهل أن يبتعد عن الأطعمة التي تضر معدته، ولكن كيف يمكنه أن يبتعد عن التفكير في بيته الذي لم يكمل بناءه منذ سبع سنوات عجاف، أضطر إلى الاستدانة وأخذ مزيد من القروض وبقي على راتب زهيد، وكيف يغض طرفه عن التفكير في قيمة الإيجار الباهظ لسكنه وعن مصاريف أبنائه في الجامعة والمدارس، وأن لا يفكر في أجرة السائق الذي يوصل ابنته إلى الجامعة، وفي قيمة الكتب العلمية التي تشتريها ومتطلبات الجامعة من مشاريع وواجبات، أو ابنه الذي تخرج من الجامعة وبقي قابعا في البيت ينتظر الوظيفة، والصغار الثلاثة الذين مازالوا يدرسون في المرحلة الابتدائية والإعدادية.

مر أسبوع وهو ملتزم بتعاطي دوائه، في البداية لم يستطع أن يمتنع عن شرب الشاي عصرًا فهي متعته المحببة، لكنه تخفف منه كثيرا، فبدلا من شرب ثلاثة أكواب من الشاي، صار يشرب كوبا واحدا، يشربه كأنه خمر من الجنة، وما أن ينتهي حتى تتوق نفسه للأخر إلا أنه يصمد؛ فالشاي هو أحد متعه الخاصة ومرارته تخلف وراءها مذاقا يحلو فيه نهاره، لكن هذا الكوب شيئا فشيئا قد يفاقم من سوء حالته الصحية وتزداد القرحة اتساعا، وبعد تردد استطاع أن يمتنع عن شرب شاي نهائيا، وقد صاحب ذلك تعكر في مزاجه، وإذا ما شرب يوما أحس بأنه فعل خطيئة آدم، ويظل يلوم نفسه. وذات مرة قادته السيارة إلى مقهى الغراب في وسط القطيف، المقهى الذي يلتقي فيه دوما بأصحابه، كان ضجرا حيث عاد للتو من بيته الذي يتابع بناءه، وقد تشاجر مع المقاول، طابت نفسه لشرب كوب من الشاي، كانت رائحة خدره تفوح، ما أن أحس بطعم مرارته حتى أحس بطعم الخطيئة، شعور بائس أن يمتزج شرابه الحلو بطعم الخطيئة، إلا أنه شعر بشيء من الحموضة في معدته فغادر المقهى سريعا.
ذات يوم بينما كان منهمكا في قراءة إحدى المجلات الترفيهية في شقته جاءه اتصال من المقاول.
ـ لقد نفدت أكياس الأسمنت، نحتاج إلى ثلاثمائة كيس أسمنت وقوالب رمل.
ـ ماذا! ألم يكفيكم ما عندكم، ماذا يفعل به العمال يا ترى، هل يأكلونه!!.
ـ هذا ما حدث، عليك أن توفره وإلا لن نستطيع العمل.
ـ حسنا حسنا.
يقفل السماعة بينما يفور دمه غضبا، يعض على شفته، ويقول: ماذا يفعل هؤلاء العمال بكل هذا الأسمنت، كل يوم يطلبون مزيدا من أكياس الأسمنت ومزيدا من الرمل ومزيدا من الحديد.
وفجأة ترتفع الحموضة في معدته وكأن حريقا قد اندلع فيها، راح يتلوى من الألم، وانحنى ظهره قابضا على بطنه الكبير، سارعت زوجته وجاءت بالدواء المهدأ للألم، شرب منه ملعقة، ثم ذهب إلى غرفته ورمى بنفسه على سريره.
ـ لا تقلق نفسك كثيرا.
ـ الأموال تطير في الهواء كالطيور، إذا اشتريت هذا الرقم من الأكياس، فالأمر يعني أنني لن استطيع أن أوفر باقي المواد الأخرى بشكل كامل، لا أدري متى سأنتهي من بناء هذا البيت!
ـ فليذهب البيت إلى الجحيم، المهم لا تغتم، هذه تعليمات الطبيب.
حلّ المساء والعائلة تجلس في صالة المنزل الصغيرة، الجميع مستعدون لمشاهدة مسرحية “باي باي لندن” لعبدالحسين عبدالرضا، عليهم أن يضفوا على المنزل المرح والكوميديا، تحاول المرأة أن تبعده عن أخبار التلفزيون السيئة الذي يتابعها بشكل مستمر، وضعت على المنضدة صينية عليها بعض البسكويت، فلا حلوى ولا شاي، كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة، حيث أنهم أشعلوا المدفأة الكهربائية.
ما إن بدأت المسرحية حتى بدأ الرجل بالضحك، فيما يواصل الممثلان عبدالحسين وغانم الصالح إرسال نكتهما إلى أن قال عبدالحسين بسخرية: العرب يحبوا يناموا وهو مظلومين!
راح يضحك بشدة حتى طفرت عيناه بالدموع ، ترنح جسده، وارتجت معدته من كثرة الضحك، وفجأة انتابته حرقة في معدته وأحمر وجه، وبدأت شدة الألم تتصاعد شيئا فشيئا، كان الجميع حائرين ماذا يصنعون، بينما هو يتلوى من الألم ويصرخ، عندها أدرك الابن الأكبر على أنه يجب أن ينقل أباه إلى المستشفى في أسرع وقت.
وصل إلى المستشفى برفقة الأسرة كلها في حالة إعياء شديد، حيث أفرغ الرجل كل ما في معدته، أدخلوه عاجلا إلى غرفة المنظار، بعد مدة طمأنهم الطبيب بأن حالته استقرت. سألهم: هل أبوك يتناول أدويته في موعدها.
الولد: نعم
الطبيب: ماذا أكل أبوك اليوم.
الولد: بطاطا مسلوقة، رز أبيض، لا شيء ممنوع.
الطبيب: لعل أبيك أصيب بنوبة عصبية.
الولد: على العكس تماما، كنا نحاول أن نضفي الفرح على والدنا، وقررنا مشاهدة مسرحية فكاهية حتى أخذ أبي يقهق بالضحك.
بدا في وجه الطبيب كمن ظفر بشيء وهو يستمع باهتمام وهو يومئ برأسه. حتى قال: يا بني الضحك الزائد ضار أيضا على مرضى قرحة المعدة.
الولد باستغراب: كيف!! هل عليه أن لا يضحك أبدا.
الطبيب: لا.. ليس هكذا بالضبط، فليضحك بشكل معتدل.
كان الرجل وهو ملقى على السرير، يستمع لحوارهما مرتاعا، صار عليه أن لا يضحك أو يحزن إلا وفق قياس محدد، عليه أن يبقى في المنتصف وأن لا يحيد عنه وإلا فذلك الثقب قد يتسع أكثر.
عند عودته للبيت اختار أن ينفرد في غرفته، يحاول أن ينسى كل شيء، بيته تحت البناء وديونه وأخبار التلفزيون والمسرحيات المضحكة.