4 يوليو، 2024

دراسة نقدية للناقد الدكتور ظاهر شوكت من العراق عن قصة زعفران أحمر ” للقاصة ” نجاح إبراهيم _ سوريا

نجاح ابراهيم

يميلُ المبدعون إلى استعمال الرمز الموحي ليكون معادلاً موضوعياً يسهل فهم أفكارهم، بل ويشوقُ المتلقي عن طريق التلميح بعد أن يوجدوا الصلات بين الشخصية والرمز.
الزعفران نبات معروف بكونه نوعاً من أنواع الطيب، وقالوا عنه: إنه يعدلُ المزاج، وزهرة الزعفران جميلة فيها ثلاثة مياسم، وحين تجفُّ وتيبس تتحولُ إلى توابل نادرة. فالزعفران وزهرته منتجان نافعان في حياتهما وبعد موتهما، لذا استعارت الروائية نجاح “زعفران” للأستاذ نور الدين علم ، الباحث في التراث والتاريخ الإسلامي، وله آراء وأفكار ولم تعجب كلَّ الأطراف، ومن خيراته أنه استطاع أن يجعل من “مزنة” كاتبة وعاشقة لأفكاره، فهي تقول: إنها أحبَّته ملء قلبها وعقلها، وتمنت أن تبقى معه كلَّ العمر، ترتشفُ من فكره الثر، وتحظى بعلم ومعرفة تعيد تشكيلها على وفق أفكاره!
وقصة “زعفران أحمر” لم تكن قصة كلاسيكية نمطية تستلهمُ الكثير من أفلام الرعب، إنما ظهرت قصة حديثة تتفاعلُ مع أحداث جديدة، فقد ندّت عن واقع جديد حيث استطاع المتطرفون الجهلة بسط نفوذهم المادي على حياة الناس، لذا بدت القصَّة طريَّة حارَّة بأطرافها وأحداثها، تغرينا من البداية وتعلمنا كيف يصبح الإنسان قوياً بأفكاره وثباته عليها، والدفاع عنها بإخلاص لا بقوته الجسدية، أو أذرع القوة الأخرى مثل المال ووو…
القصة لها رسالة حين تدينُ الحروبُ ومخلفاتها من نزوح وانتشار السرقات واغتصاب حقوق الآخرين والدعوة إلى البداوة وتقديس مساوئها، فالقائمون على الأمر الواقع جهلة متطرفون يتوهمون أنهم حراس الدين وأنهم القادمون…
فالمستقبل لهم كما قال أحدهم حين دخل المسلحون على الأستاذ الذي لم يتراجع حتى اللحظة الأخيرة وقال لهم… إنهم منهزمون… فقتلوه، لكن مقتله تحول إلى ولادة جديدة في المعاني والقيم، البطل المركزي الأستاذ نور الدين استكمل مقوماتٍ تجعله جديراً بقيادة الحدث وتوجيهه والتأثير على الآخرين، فهو أستاذ في التراث والتاريخ الإسلامي، صاحب مؤلفات لم تعجب كلَّ الأطراف؛ لذا فضل العيش في عزلة وعالم البستنة.
ومن خيراته أنه حوّل “مزنة” إلى كاتبة لمجموعة قصصية، وقطعت “مزنة” أميالاً كي تصل إلى أرض يقيم فيها نور الدين، وقد خصّه الله بارتفاعها كأنما أراد له أن يسمو بعليائه عن القاع الذي امتلأ بالرعاع والزواحف. وكان فرح الأستاذ عظيماً حين اطلع على مجموعة “مزنة” القصصية باعتبارها ثمرة من ثمراته، فلذا قال عن مزنة: أجمل من زهرة زعفران. ثم أعطاها درساً بليغاً حين انحنى على الأرض وقطف زهرة، وقال وهو يشير إلى داخلها: أرأيت هذه الشعيرات الثلاث؟ هذا ما نترقبه بكثير من الشغف الذي يطلع بعد صبر.. فحين تجفُّ وتيبسُ تتحولُ إلى نوعٍ نادر من التوابل، فلذا قال: أنت هذا الكنز، وأنا الصابر.
دخل عليه المسلحون وقالوا له: سنقتصُّ منك!
وقال بشموخ، ومن أنتم كي تنصبوا أنفسكم قضاة؟ فانبرى آخر: نحن حراس الدين، نحن القادمون!
قال وهل ترون الناس كفاراً؟ أنتم دعاة مهزومون… ولم يكمل لأنهم دفعوا به إلى سور البستان العالي يمشون فوق أزهار الزعفران بهمجية، ويمزقون بأحذيتهم القذرة بتلاتها… وبلا رحمة فجّروا رأسه لينحني فوق الأسلاك، وراح يسيل على موسم زعفران أحمر…
هكذا صار الزعفران وهو نوع من أنواع الطيب يعدل المزاج… صار أحمر بدم الأستاذ الثابت على رأيه.
كان الصراع بين النور والعلم من جهة، وبين الجهل والتخلف والعودة إلى السيء من الماضي من جهة أخرى… ألم تقرأ كيف سحقوا زهرة الزعفران بأحذيتهم القذرة… لقد انتصر الجهلُ والبداوة من حيث الشكل، ولكن بقي النصر الحقيقي شعلة بيد الأستاذ. كما ورد في المثل الإنكليزي:
Winners never quit; quitters never win.
المنتصرون، الكبار، الفائزون، الناجحون لا ينهزمون، والمهزومون لا ينتصرون، أو لا يربحون، لا يفوزون، لا يحصلون على ما يبتغون.
ومن تقنيات القصة: الإهداء القائل: “رجوتُ الصفصاف أن يؤجل عطشه”… هذا طلب يخالف منطق الحياة… فشجرة الصفصاف أو الاسفيدار كما وردت في إحدى روايات الكاتبة تحت عنوان “عطش الاسفيدار”… عطشها لا يرتوي.
لقد ابتدأت القصة بالاستذكار والاستحضار، ولسبب منطقي ومعقول، أو بمعنى آخر، نتيجة محفز مادي رفع غطاء الذكريات.
“مزنة” صارت لا تقوى على العيش بدون كتاب، هي كما السمكة لا تستطيع العيش خارج الماء. لقد نهب المتطرفون مكتبتها التي قضت العمر كله في تكوينها، وكادوا يقتلونها لولا هروبها في الوقت المناسب… الآن وبعد مرور سنوات، جاءت إلى سوق التعفيش، أو سوق الحرامية لتشتري كتباً رخيصة الثمن، فالحرامية لا يقرأون الكتب، وإنما يفكّرون في بيعها، وظلّت تقلب الكتبَ الواحد تلو الآخر حتى عثرت على أحد كتبها، فتحته بلهفة فوجدت فيه مياسم زهرة الزعفران وقد جفت…فاندلقت ذكرياتها مع الأستاذ؛ زيارتها له هناك في الجبل، ثم تذكرت أنهم قتلوه لأنه لم يغادر كما فعلت هي، ولأنه لم يتراجع عن أفكاره، وغصّت في دموع، انتبهت إلى بائع الكتب “الحرامي” وقد لاحظ الدموع في عينيها، لكنها لم تعلق بشيء.
هذا ما ابتُلي به الشرقيون!